في العقود الأخيرة، تسارعت حدة الاعتداء على المقدسات والرموز الدينية، وفي كل مرة تصطدم دعوات الدفاع عن المقدسات بمبدأ حرية الرأي والتعبير، وهو المبدأ الذي يُبالغ المجتمع الدولي في حمايته، متأثرًا في ذلك بظروف النشأة التاريخية التي غلب عليها رغبات الانفكاك من هيمنة الكنيسة، ما جعل مبدأ حرية الرأي والتعبير أساس كل المواثيق الدولية، ولا تضاهيه في منزلته مبادئ أخرى.
المواثيق الدولية.. وحرية الرأي والتعبير
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في ديسمبر 1948م نص على حرية الرأي والتعبير بالمادة (19): «لكلِّ شخص حقُّ التمتُّع بحرِّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين، بأيَّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود»، وسار على نهجه العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر في ديسمبر 1966م، وهو بلا شك توجه محمود إن لم يتغول على غيره من الحقوق والواجبات.
حماية المقدسات.. وحرية الاعتقاد
في مقابل العناية الفائقة التي تحظى بها حرية الرأي والتعبير، خلت المواثيق الدولية من أي نصوص صريحة لحماية المقدسات والمعتقدات، ولا يخفف من وطأة هذا الغياب النص على «حرية الاعتقاد»؛ لأن هذا الأمر يمثل في حد ذاته إشكالية، فحرية الاعتقاد التي تبنتها المواثيق الدولية مغايرة تماماً للمطلوب في حماية المقدسات، بل إنها في الأغلب متصادمة معه؛ لأنها تتبنى «حرية الاعتقاد» من زاوية الفرد نفسه لا من زاوية المعتقد، فهي لا تحمي الدين أو المعتقد أو المقدس، لكنها تحمي حرية الفرد في اعتناق أي دين، ثم حريته في تغيير دينه أو معتقده، حيث ورد النص على ذلك في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: «لكلِّ شخص حقٌّ في حرِّية الفكر والوجدان والدِّين، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في تغيير دينه أو معتقده، وحرِّيته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبُّد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة».
الإشكالية هنا تتمثل في تعزيز حرية الإنسان في اعتناق الأديان وتغييرها والانحلال منه، دون أي ضمانة في المقابل تمنع من الإساءة لمعتقدات الآخرين، وهذا يعني أن النَّيْل من المقدسات يأتي في باب حرية الرأي والتعبير وليس في إطار حرية الاعتقاد، وهو ما يمثل تحصينًا لظاهرة الاعتداء على المقدسات لا مواجهتها، وحماية الفعل بدلاً من تجريمه، ولعل السبب في ذلك يكمن في تأثر المواثيق الدولية -التي كُتبت بعد الحرب العالمية الثانية- بالنزعة الليبرالية الغربية التي جسدت ثقافة المنتصر في مواجهة المهزوم وفي القلب منه الشعوب الإسلامية والعربية، فانشغل دعاة المذهب الليبرالي بتفكيك الأرضية الدينية للمجتمعات باعتبارها خطرًا -بحسب الظاهر- على مبادئ حرية الرأي والتعبير، لكنهم في حقيقة الأمر يعتبرونها تهديدًا لمسلكهم الجديد في إدارة العالم، في النظم المالية، والممارسات الحياتية، والعلاقات بين الرجل والمرأة، وطرق تربية الأبناء، حتى وصلت بهم الحال إلى حرية اختيار الجنس، والجندرية، ودعوات الشذوذ، وصولًا لاستدعاء ذلك الخطر لمساحات الطعام والشراب والملبس!
المقابلة الدائمة بين «مطالب حماية المقدسات» و«مبادئ حرية الرأي والتعبير» أدت لغياب أي إشارة لحماية المقدسات الدينية في المواثيق الدولية التي أسست المجتمع الدولي، وأصبحت دعوات حماية المقدسات المتفق عليها (الأديان، الأنبياء، الكتب السماوية) بمثابة عدوان على حرية الرأي والتعبير، ورويدًا رويدًا انتقل الأمر من مربع الحرص على مبادئ حرية الرأي، إلى رغبة مباشرة في تشويه الأديان -خاصة الدين الإسلامي- فالنَّيْل من المقدسات والرموز لم يعد طبيعيًا تستوجبه سياقات الكتابة الأدبية أو الفنون المختلفة، لكنه أضحى متعمدًا تُنَظَّم من أجله الفعاليات الخاصة التي لا تحمل أي صفة نقدية أو نقاش علمي لحقائق الأديان وتعاليمها، لكنها تتبنى إما «حرق الكتاب المقدس» أو «تسفيه الأنبياء ورسمهم في صور مبتذلة»؛ وهو ما يتوجب معه تنظيم حرية الرأي والتعبير وتهذيبها.
تفعيل المواثيق الدولية لحماية المقدسات الدينية
الفلسفة التي انتهجت في كتابة المواثيق تفترض إيجاد صيغ حاكمة لحدود الحقوق والحريات والواجبات بلا تصادم أو بغي، وغياب آليات صريحة لحماية المقدسات الدينية من المواثيق الدولية لم يغب معه الفرصة في تجريم فعل العدوان على المقدسات وتعزيز حمايتها، نوضح ذلك عبر الخطوات التالية:
– إعادة تعريف الجريمة:
نستطيع إعادة تعريف فعل المساس بالمقدسات وتوصيفه باعتباره «جريمة عدوان على السلم والأمن الدوليين»، فالعدوان على المقدسات الإسلامية في حقيقته اعتداء على جماعة من البشر تقترب من ملياري إنسان، والمجتمع الدولي يتحرك لحماية الأقليات، فكيف الحال مع ربع سكان العالم أو يزيد؟!
كما أن الفعل من زاوية أخرى يتضمن «عدواناً عنصرياً» يرسخ جريمتي «الكراهية والتعصب»، وقد نصت المواثيق الدولية على نبذهما، في إعلان الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري الصادر في نوفمبر 1963م، وقد ذكرت الأمم المتحدة أن خطاب الكراهية يشير «إلى الكلام المسيء الذي يستهدف مجموعة أو فردًا بناءً على خصائص متأصلة مثل العرق أو الدين أو النوع الاجتماعي التي قد تهدد السلم الاجتماع».
نستطيع أيضًا إعادة تعريف فعل الاعتداء على المقدسات بكونه شكلاً من أشكال التمييز بين البشر وفق ما تبناه «الإعلان بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد»، الذي نص على «التمييز بين البشر على أساس الدين أو المعتقد إهانة للكرامة الإنسانية وإنكاراً لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة، ويجب أن يشجب بوصفه انتهاكاً لحقوق الإنسان والحريات الأساسية التي نادى بها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والواردة بالتفصيل في العهدين الدوليين الخاصين بحقوق الإنسان، وبوصفه عقبة في وجه قيام علاقات ودية وسلمية بين الأمم».
– السعي لإقرار نص صريح بتجريم العدوان على المقدسات:
القانون الدولي يستمد بنيته الرئيسة من مصادر متفق عليها تشمل العرف الدولي، والاتفاقيات الدولية، ومبادئ القانون العامة التي أقرتها الأمم المتمدينة، وأحكام المحاكم، وآراء الفقهاء، من هذا الباب نستطيع اعتبار احترام الأديان والمقدسات عرفًا دوليًا مستقرًا، كما يمكننا استظهار مبادئ قانونية أقرتها الأمم المتمدينة في دساتيرها وقوانينها، وبصورة مباشرة تستطيع الدول الإسلامية مجتمعة أن توقع اتفاقية تناهض جريمة الاعتداء على الأديان والمقدسات وتسجلها عبر آليات الأمم المتحدة.
– خلق آليات محلية لحماية المقدسات:
قد تسهم الآليات المحلية للدول في إقرار أرضية عمل دولية تحترم المقدسات وتسعى لحمايتها وتجريم العدوان عليها، ويأتي في مقدمة هذه الآليات النصوص الدستورية للدول، وإقرار حق التقاضي بالمحاكم الوطنية ضد فعل العدوان، وإن تم ارتكابه في دول أخرى، وهما آليتان تمثلان إطارًا دوليًا معتبرًا كون النصوص الدستورية تمثل مبادئ قانونية أقرتها دول متمدينة، وأحكام المحاكم تنشئ بيئة قضائية رافضة لفعل العدوان تصف أسبابه وتوضح خطورته، وإصدار أبحاث في دوريات علمية مترجمة، واعتماد رسائل دكتوراة وماجستير توصي بتجريم فعل العدوان تستطيع صنع مناخ فقهي يشرح مدى خطورة هذه الجريمة على العالم والإنسان.
أخيرًا، يجب السعي نحو لفت نظر العالم لخطورة العدوان على المقدس والمعتقد، وضرورة كبح جماح التخيلات الغربية التي افترضت بداية وجود ندية بين البشر وخالقهم، ثم جعلت فكرة التدين في مرمى العداء، وبثت قناعات خبيثة تصور للإنسان حريته في الانفلات من قيد الدين، والحقيقة أن الإنسان وفق هذه النظريات قد التزم بقيود كل شيء عدا الدين، فهو يقبل الانصياع لمبادئ سوق العمل، والأدوات المصرفية، وقواعد المرور، حتى إنه أضحى أسير ضوابط الموضة ووصفات الأكلات، لكنه في المقابل يتم استنفاره دوماً للانفلات من ضوابط الدين والتحلل من حرمة المقدسات.