رغم أن الدين أسبق من المجتمعات جميعها، ورغم أنه لم يقم أي اجتماع بشري في التاريخ إلا على الدين أيًا كانت صحة هذا الدين من عدمها(1)، فإن فلسفة التربية الغربية التي تغذو دول العالم الآن -ومنها دول العرب والمسلمين- قد نشأت في سياقات تاريخية بنيت على القطيعة مع سائر الأديان وتقديس العلم التجريبي المحسوس، فتشكلت نظرتها إلى الإله والكون والإنسان على هذا الأساس، وشمل ذلك -بالطبع- فلسفة التربية وما بني عليها من مبادئ وأفكار وممارسات(2)، وفي هذا المقال نستعرض الفروق الثلاثة الرئيسة بين فلسفة التربية في نظر الإسلام وغيره من الفلسفات.
التعريف
عندما يتعلق الأمر بفلسفات الأشياء، فإن أول إشكال يكون في الأمر المعرفي (الإبستمولوجي)، ففارق كبير بين فلسفة بنيت على تصور وجود إله كامل عالم بما يُصلح خلقه فأمرهم باتباع شريعته وأوقف على ذلك صلاح معاشهم ومعادهم، وغيره ممن يشرع لنفسه هديًا لا يرضاه خالقه، قال تعالى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى {123} وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه)، ولذلك نرى أن مدار تعريفات التربية الإسلامية على تنشئة الإنسان وإصلاحه شيئاً فشيئاً بالتدرج في تشكيل الشخصية السوية المتكاملة في جميع جوانبها الروحية والعقلية والوجدانية والخلقية والاجتماعية والجسمية من خلال منهج رباني محكم، فلا يحيط بماهية الإنسان أحد غير الذي خلقه؛ (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك: 14)، بينما ارتكزت فلسفات التربية الأخرى -حديثة كانت أم قديمة- على إعطاء المربي الحرية الكاملة ليختار المنهج الذي يناسبه حسب ميوله وقناعاته ورغباته وإمكاناته(3)، لذا نجد التفاوت الكبير بين سائر الفلسفات كما سنبيّن.
الشمول والتوازن
تميز المنهج التربوي الإسلامي بشموله لحياة الإنسان كلها، وعنايته بجميع جوانب النفس البشرية المتمثلة في الأبعاد الرئيسة الثلاثة (الروح، والنفس، والجسم) دونما إهمال أو مبالغة في حق شيء منها على حساب الآخر، ويبدو هذا الشمول جليًا عند من عرَف تشريعات الإسلام التي شملت جميع جوانب الحياة بداية من العلاقة بين العبد وبين الله، وبينه وبين نفسه، وبينه وبين الناس، وبينه وبين سائر الكائنات من حوله حيةً كانت أو جامدة، فكل ما في الحياة من سلوك فهو موضع للتشريع الرباني كما قال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 162)، وكمنت أهمية التربية في تخضيع النفس لمراد الله تعالى، وهذه حقيقة الإسلام؛ فهو استسلام لله سبحانه وتعالى بفعل مراضيه واجتناب مساخطه وترويض النفس على محابه، في حين أنّا نجد الغلو في الفلسفات المثالية بالإغراق في أمر الفكر حد التخييل والأوهام، فإنها ارتكزت على أن كل الفضائل والكمالات محصورة في العالم العلوي فحسب التي لا سبيل إلى تحقيقها في العالم السفلي(4)، وكذلك الأمر في الفلسفات الواقعية، فهي تقرر -على نقيض المثالية- بأن العالم الذي نعيشه ثابت لا يتغير، وأن جميع الأفكار تنشأ عنه -لا العكس- دون الحاجة للدين والقيم حتى الفطري منها(5)، أما الإسلام فإنه جاء بالتوازن بين ما هو من شأن الفكر استمدادًا وما هو من شأن السلوك تطبيقًا، قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص: 77).
مركزية الأخلاق
أصل أصول التربية في الإسلام الأخلاق، وهي التي يتفاوت العباد بناءً عليها في درجاتهم عند الله تعالى، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق»(6)، وقد عرف الجرجاني الأخلاق تعريفًا يكاد يكون مطابقًا للتربية، فقال: إنها «عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر ورويَّة، فإن كان الصادر عنها الأفعال الحسنة كانت الهيئة خلقًا حسنًا، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي مصدر ذلك خلقًا سيئًا»(7)، وقد كثرت نصوص الوحي في الحث على الصدق والأمانة والصبر والإحسان والقسط والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك مما هو معروف، وجعلت كل ذلك قيمًا مركزية في تصور المسلم عن التربية، في حين أنّا نجد التخبط في الفلسفة البرجماتية التي تقوم على أساس أن العالم نسبي غير ثابت وفي تغير وتحول يصعب معه الجزم بشيء من القيم(8)، ومثلها في التخبط الفلسفة الوجودية والتي بنيت على أن وجود الإنسان أسبق من ماهيته، فلا يصح له البحث في القضايا الكبرى التي وُجد من أجلها وعلى رأسها المبحث الأخلاقي، أما الإسلام فيجزم بأن سنن الله الكونية لا تتبدل ولا تتحول (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) (فاطر: 43)، وكذلك سننه الشرعية فيما يتخذه العباد من سلوك حيث قال: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران: 85).
وختامًا، فإنه ينبغي على كافة المسلمين رفض تبني فلسفة التربية الغربية بكل حيثياتها، وكذلك بشأن كل أداة محققة لتلك الفلسفة بخلاف ما هو مشترك إنساني من تجارب وخبرات، ففارق بين كبير بينها وبين فلسفة تربوية منطلقة من النظرة القرآنية متضمنة لرؤية شاملة عن إعداد الإنسان في الحياة الدنيا الفانية للحياة الأخرى الباقية، وتقوم بضبط سلوكه على أساس مفهوم الاستخلاف لتحقيق كمال العبودية لله وبناء مجتمع مستقيم، وبهذا فإنها حتمًا ستساهم في حل الأزمات الإنسانية الكبرى في الواقع المُعاش.
___________________
(1) يراجع: المقدمة لابن خلدون، مكتبة الشعب، ص 169.
(2) يراجع: مقال فلسفة التربية الإسلامية: الأسس والغايات والمقاصد لسعيدة زواط، مجلة المعارف للبحوث والدراسات التاريخية العدد 18 بتاريخ ٣ سبتمبر 2018م، ص31.
(3) مدخل إلى التربية للطيطي وآخرين، دار المسيرة، ص79.
(4) أصول التربية لمحمد حسن العمايرة، دار المسيرة ص258.
(5) المصدر السابق، ص260.
(6) رواه الترمذي 2002، وقال: حسن صحيح، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع برقم 5628.
(7) التعريفات للجرجاني، دار الكتاب العربي، ص101.
(8) فلسفة التربية لهاني عبدالرحمن، مطابع القوات المسلحة بالقاهرة، ص79.