ما أحوجَنا اليوم إلى تنسيق الجهود بين العاملين للإسلام بكلّ أطيافهم ومدارسهم، وذلك أن هناك جهودا عظيمة مبعثرة إن نُظّمت يمكن أن يكون لها ثمارٌ كبيرةٌ وهي بمجموعها لها هدف واحد وهو العمل لإعلاء كلمة الله تعالى في الأرض، وإنما يقع الاختلاف في الآليات والأدوات، ولا بد من الإقرار بذلك أولاً، وعدم إنزال الخلاف الهامشي منزلة الوفاق الواسع (المهمل).
ولا بد أن يكون من ثوابت العمل لدينا جميعاً أننا ما دمنا نعمل لهدف واحد فإن ذلك لا يضره تعدد الآليات ووجهات النظر ولا يمنع التنسيق لتحقيق الهدف وتكامل الجهود والأدوات.
وهذا ابتداء يقتضي تغليب إحسان الظن فلا تقوم العلاقات بين العاملين للإسلام على سوء الظن وأسوأ الاحتمالات، والتنكر لجهود الآخرين.
وتشير الوقائع إلى وجود محاولات تنسيقية خجولة، وهي غالباً ردة فعل على حدث يصيب أذاه الجميع فيشعر الكل بحاجتهم إلى المواجهة فتكون منهم بعض الترتيبات، ولكن في الحقيقة تعود وتتغلب الحسابات الحزبية فتضعف روح التنسيق ويتراجع العمل من خلالها بعد مرور الحدث تحقيقاً أو زوالاً.
وفي هذه الورقة سوف أبحث في سبيل تحقيق التنسيق بين العاملين للإسلام بوصفه مشروعاً أساساً وفكرةً راسخةً لدى العاملين ومبادرةً ذاتيةً دون وجود حدث آني يُتجاوب معه؛ أي أن يصبح التنسيق جزءاً من خطّة عملنا في مؤسساتنا ويغدو قناعتنا الراسخة التي نسعى بها إلى تطوير أعمالنا وتكامل وجودنا وليس مجرد ردّة فعل على حدثٍ أو واقعة.
فالمعاصي والذّنوب كثيرة وهي كلّ عمل يناقض مقصود الله تعالى في عباده، أو يناقض أمره سبحانه وتعالى لنا في مسيرة حياتنا.
فنحن كثيراً ما نتنبه لمعصية السارق وتارك الصلاة والمغتاب ونرى أن على فاعل ذلك توبة وقد يلحقه عقاب في الدنيا والآخرة.
وهذه الذنوب على عظمها محدودة الضرر؛ فبعضها يمس المذنب، كشؤون عبادته وبعضها يمس فئة من الناس، ونحن نؤكد ضرورة التوبة من المعاصي، ونعظ بذلك وهذا واجب ولازم.
ولكن لا نبالغ إذا قلنا إن هناك ذنوبا ومعاصيَ تحتاج إلى توبة وهي من فعل العاملين للإسلام ومن يعظون الناس بالتوبة من المعاصي، وهم يكادون يكونون مختصين بهذه المعاصي أو هم الأوضح في الوقوع بها.
فلا بد أن نؤمن أن هناك معاصي تعود على الأمة جميعها بالضعف والهوان، وتمكن الأعداء من أغراضهم فينا ومشاريعهم للنيل منا وتحقيق هدف العدو شاء فاعلها أم أبى.
ومن هذه المعاصي التي تجدر الإشارة إليها والتنبيه للتوبة منها، كالتوبة من ترك الصلاة:
- إعجاب كلّ ذي رأي برأيه وكل بما لديه، وكل جماعة بذاتها ومنهاجها، واحتكار الحقيقة، وحصر الخلل في المخالف، واستصغار شأنه، وغالباً ما يكون هذا المخالف مخالفاً بآليات العمل فهو مثلاً يبحث عما تتحدث عنه أنت وغرضه غرضك، ولكنه اعتقد صلاحيّة آلية أخرى للوصول إلى المراد.
- ويتفرع عن ذلك التعصّب الحزبي والتنظيمي.
- والتشكيك بالآخر، والمراد بالآخر الذي ينتمي لكل ما أنتمي إليه ديناً وربما مذهباً، لكن الخلاف إنما هو في الجماعة والحزب، حتى إنه ربما ينطبق على بعض الإسلاميين فيما بينهم قوله تعالى: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا ۖ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (آل عمران: 120). وهذا التحاسد والتباغض يقع بسبب أن البعض اقتطع جزءاً من الحقيقة وأراد أن يجعلها الحقيقة كاملة، وهو معنى قوله تعالى: {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ َفاتَّقُونِ* فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: 52، 53). وزبراً هنا بمعنى كتباً؛ فكلٌ أخذ بشيء من الدين وجعله كل الدين وعاب على غيره ما أخذ به.
وقد فصل الشيخ سلمان العودة في العودة في هذه المسألة في كتابه كيف نختلف بما يغني عن التفصيل هنا (انظر ص19 وص24).
والله أسأل أن يستخدمنا بوضع النقاط على الحروف في هذه المسألة بما يحقق النفع، ويؤسس للتنسيق القائم على المبادرة بين مختلف مكونات العمل الإسلامي؛ إنّه أكرم مسؤول وذلك من خلال المحاور الآتية.
المحور الأول: الفرقة والاختلاف بين مكوّنات العمل الإسلامي.. المظاهر والأسباب:
مما لا شكّ فيه أنّ العمل الإسلامي يعاني من فرقة عميقة بين مكوناته واختلافات كبيرة بين أبنائه العاملين لأجله، وهذه الفرقة أدت إلى الفشل في كثير من المجالات وتشتت الجهود وبعثرتها، وبالتأكيد أننا لسنا بصدد حصر أسباب هذه الفرقة أو استيفاء مظاهر الخلل لكنّ ربما نقف مع بعض هذه الأسباب التي تجلّت في مظاهر عديدة مما له صلة بصناعة وتكريس أزمة الثقة وفقدان التنسيق وتشتيت الجهود من الأهميّة بمكان.
فمن مظاهر هذه الفرقة وأسبابها:
أولاً: أزمة الثّقة بين مكونات العمل الإسلامي:
من أهم أسباب الفرقة، ولن أفصل القول فيها هنا إذ سأفرد لها المحور الثاني كاملاً.
ثانياً: العصبية الحزبية وتصنيم الجماعات والكيانات:
لقد قسّم المفكر مالك بن نبي العوالم إلى ثلاثة عوالم: عالم الأفكار وعالم الأشخاص وعالم الأشياء، والأمم القوية حضاريا هي التي تدور فيها الأشياء والأشخاص حول الأفكار، والأمم المريضة هي التي تدور فيها الأفكار والأشياء حول الأشخاص، سواء أكان هؤلاء الأشخاص أشخاصاً حقيقيّين أم اعتباريين، ومكونات العمل الإسلامي من كيانات وتيارات وجماعات ومدارس وتنظيمات هي شخصيّات اعتباريّة.
ومما يؤسف له أن كثيرا من العاملين في الحقل الإسلامي يدورون حول الشخص الاعتباري، وهم يظنون توهما منهم أنهم يدورون حول الفكرة التي يحملها ويمثلها.
وهذا يؤدي مع الزمن إلى تصنيم الجماعات والكيانات؛ فتصبح الأفكار خادمة للكيانات وليس العكس، وهنا تتحقق عبارة ابن نبي: “إذا غابت الفكرة بزغ الصنم”، وهذا التعصب للجماعات يفتك من حيث لا نريد ولا نشعر بالتنسيق الحقيقي بين مكونات العمل الإسلامي، وتغدو هذه المكونات كقبائل الجاهلية ينتصر لها المنتسبون لها ظالمة ومظلومة ولسان حالهم:
ومَا أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ *** غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ
وأعتقد آسفاً أن كثيراً من أبناء الحركات الإسلامية لم يبتعد كثيراً عن هذه العصبية؛ حتى ربما كره بعضهم أن يأتي أذى العدو على يد أخيه؛ لأنه يريده من يده هو، وهذا مشروع ولكن يريدها حصراً من يده، ويده لا تكفي لتحقيق المراد؛ فالمحصلة سعادة العدو بمراده.
ثالثاً: ضبابيّة مفهوم جماعة المسلمين:
لا تكاد تلتقي بأحد من العاملين للإسلام إلّا ويحدّثك عن أنّ كيانه من جماعة المسلمين، ولكن السلوك الذي يتم تطبيقه وعند كثيرين، كأن هذا الكيان هو جماعة المسلمين وليس منها، وهذا يؤدي إلى أن مفهوم جماعة المسلمين يجب نقله من الحيز البروتوكولي والدبلوماسي ليغدو جزءاً من القناعات والاعتقادات الإيمانيّة لا التعاملات الشكليّة، وكذلك يجب تلقين الأجيال مثل هذه المعاني وترسيخها في نفوسهم، وأن الفوارق بين هذه الجماعات ليس اختلاف ولاء ولا براء وإنما في آليات العمل.
رابعاً: التوصيفات والاستعمالات اللفظيّة (الإخوة، الأحباب):
إطلاق توصيف الأخ أو الإخوة أو الأحباب على أحد من المسلمين في إطار الإثبات لا إشكال فيه، غير أنّ الإشكال يكمن عند استخدام هذه التوصيفات في إطار النفي؛ فعندما يسأل أحد عن شخص من جماعة أخرى فيقول: هو ليس أخا، أو ليس من إخواننا أو ليس من الإخوة أو ليس من الأحباب، فهنا تؤسس هذه التوصيفات لقناعات نفسيّة عند الأتباع لمفاهيم الأخوة والحب في الله تخالف المنهج الإسلامي، وتؤثر في التعامل السلوكي مع المختلف في الجماعة أو المكون؛ فأن تقول لابن التنظيم أو الجماعة أو المدرسة: “من إخواننا” جيد، لكن قل عن غيره: “أخ ليس من مدرستنا”، وتعدد المدارس لا يعيب شيئاً.
أما أن يكون الانتماء التنظيمي هو معقِد الولاء والبراء حصراً؛ فهذا ليس مقبولاً.
خامساً: الكولسة والتّحالفات غير البريئة في تجارب العمل المشترك.
عند نشوء تجارب للعمل المشترك كحال بعض الائتلافات أو التحالفات أو المجالس؛ فإنّ قيام عدد من العاملين بممارسات كالكولسة أو التكتلات خلف الأبواب يمثل أحد أسباب ومظاهر تعزيز الفرقة والاختلاف، وإفشال التنسيق الحقيقي والقناعة بين بين مكونات العمل الإسلامي.
وتكاد هذه الوشوشات والأحاديث السرية تعصف بفكرة التقارب والتعاون وتثير الأذى، والرسول عليه السلام ينهى أن يتناجى اثنان دون الثالث.
___________________________________________
رئيس هيئة علماء فلسطين. والمقال مأخوذ من ورقة ألقاها في مؤتمر “التيار الإسلامي والتغييرات العالمية” الذي نظمته، مؤخرا، أكاديمية الرواد الإلكترونية.