تدفع ضغوط الحياة وتزايد الأعباء المادية والمعنوية على كاهل الأسر اليوم إزاء مزيد من الجهد والوقت المُكرس للعمل خارج المنزل، لتلبية احتياجات الأسرة سواءً كانت تلك الاحتياجات والمتطلبات ضرورية أم لا، ففي عصر العقلية الاستهلاكية الرأسمالية ارتفعت وتيرة الحياة المادية وصارت المكانة تُقدر بحجم ما يستهلكه الإنسان من سلع في شكل ملابس غالية وسيارات فارهة وأجهزة إلكترونية يتم تحديثها باستمرار تحت حجة الموضة التي تتغير بسرعة عالية، كل تلك المتطلبات والأعباء قد جعلت الأب باعتباره عائل الأسرة الأساسي في سباق محموم لكسب لقمة العيش وتوفير حياة بها حد أدنى من الرفاهية لأسرته.
في خضم ذلك السعي الاستهلاكي الضاغط الذي فرضه نمط الحياة الحديث، أسهم بشكل مباشر في كوارث تربوية لا تُعد ولا تُحصى، فبخلاف ما خلقه من مادية مُطلقة على حياة البشر، ورفعه لشراهة الشراء والمظهرية فيما بين الناس، عمل ذلك النمط الحياتي على تهميش دور الأب في حياة الأسرة، وأصبحت مكانة الأب الحقيقية في نظر الأسرة والمُجتمع هي بقدر ما يكسبه من أموال وما يوفره من رفاهيات وكماليات لأبنائه دونما اعتبار لأي أدوار أخرى أكثر أهمية يجب على الآباء الاهتمام بها بشكل أكبر.
لكن عملية التربية السليمة والمُثلى هي التي تتسم بالتشاركية والتوازن فيما بين الأب والأم في التربية، ناهيك عن الانسجام التام فيما بين دور الأب ودور الأم لكي تنجح تلك العملية التشاركية في التربية، فلا يربي الأب بأسلوب مخالف ومناقض لما تربي به الأم؛ فينشأ الأبناء مشتتين ومزدوجي المعايير.
الأب والتربية
وتشير الدراسات التربوية إلى أهمية دور الأب في العملية التربوية، وكيف يؤثر إيجاباً في شخصية الأبناء ممارسة الأب لدوره التربوي وعدم النكوص عنه، فالأب المربي هو الوحيد القادر على تربية أبناء متوازنين نفسياً بشكل أكبر من هؤلاء الذين غاب عنهم الأب سواء مادياً بسفر دائم أو انفصال، أو معنوياً بالانشغال الدائم عنهم في متاهات العمل وكسب الرزق، كذلك يعاني الأبناء الذين حصلوا على قسط تربوي وافٍ من جانب آبائهم بدرجة أقل من النصف من المشكلات السلوكية والانزواء الاجتماعي والتحصيل الدراسي، إذ يسهم دور الأب التربوي بشكل فعال في رفع مستوى التحصيل الدراسي والالتزام السلوكي والنشاط الاجتماعي لدى الأبناء.
ومن أهم ما يُقدمه الأب في العملية التربوية –وبخاصة في تربية الأبناء الذكور– هو تقديم القدوة الصحيحة الصالحة للرجل في أعين الأبناء، حيث يُمثل الأب للأبناء بشكل عام النموذج المثالي الذي يجب الاحتذاء به، وكلما عمل الأب على الاتسام بالأخلاق الكريمة والالتزام الديني السمح؛ فإنه يسهم بشكل قوي في تنشئة أبناء يحذون حذوه ويسيرون على دربه.
أما فيما يتعلق بتربية الأبناء من الإناث، فإن توافر الأب المربي القريب من بناته دوماً يبني جسوراً متينة من الثقة والمحبة التي تحُول دون أي مشكلات في التواصل بين البنات -خاصة في مرحلة المراهقة- وآبائهن، وذلك يعمل على الوقاية من بحث الأبناء عن أب بديل خارج إطار المنزل، ويمنحون ثقتهم بسهولة لأشخاص غير جديرين بها؛ مما يوقع الأبناء والبنات في كثير من المشكلات.
الأب في المنظور الإسلامي
إذا تأملنا الرؤية الإسلامية للعملية التربوية، نجد أن الله سبحانه وتعالى هو المربي لعباده، فهو الذي شكَّلهم وخلقهم وقدَّر لهم المقادير والأرزاق، ويبتليهم بالمحن والنعم لكي يزكيهم ويرفعهم درجات ويعلمهم، وفي أعلى مراتب التربية والتزكية الربانية جاءت زمرة الأنبياء؛ إذ اختارهم ربهم بعد أن مروا بتجارب وابتلاءات شكلت شخصياتهم بما يلائم تصديهم للدعوة ونشر الرسالة الربانية، وعن ذلك يقول سبحانه وتعالى: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى) (طه: 13)، (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (طه: 41)، (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (القصص: 14)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه: «لقد أدبني ربي فأحسن تأديبي».
وفي الهدي النبوي الشريف، قدم النبي صلى الله عليه وسلم القدوة الصالحة للدور المثالي للأب في العملية التربوية من المنظور الإسلامي، وهي قدوة تربوية عنوانها الرفق والأخلاق، وهو في ذلك لم يكن مربياً لأبنائه فحسب، بل هو مربٍّ الأمة بأسرها، الذي جاء برسالة الإسلام وعمد إلى دعوة الناس إليها وتعليمهم قيمها وتربيتهم على أخلاقياتها وعباداتها، وخلال رحلته التربوية للأمة طوال حياته صلى الله عليه وسلم نجده قدم نموذجاً متكاملاً لما يجب أن تكون عليه العملية التربوية من رفق لا يخلو من الحزم والحسم، فاللين ومكارم الأخلاق والإحسان إلى الناس لم تمنع من حسم النبي صلى الله عليه وسلم وحزمه إزاء حدود الله، فنجده بكل ما اتسم به من رفق (وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: 159)، لا يتهاون في مخالفة الأوامر الإلهية؛ «وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».
وفي علاقته بأبنائه وأحفاده بشكل خاص، والأطفال بشكل عام، كان النبي صلى الله عليه وسلم خير مثال للأب الحاني، فكان يعانق الأطفال من أبناء صحابته رضوان الله عليهم ويقبلهم، وكلما دخلت عليه فاطمة يقف لها ليستقبلها ويأخذ بيدها ويجلسها في مجلسه، لا ينهرها ولا يصرفها ولا ينشغل عنها، بل كان سلوكه ذلك في خضم مجتمع يقوم بوأد البنات وقتلهن.
من تلك المواقف نرى جوهر التربية كما تمثلت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، تتلخص في الرفق واللين والتوجيه الدائم لمكارم الأخلاق والدعوة الدائمة للالتزام بالعبادة وتقديم القدوة الصالحة في نفس المربي بدلاً من تقديم الوعظ الفارغ أو المحاضرات التنظيرية، فالدراسات التربوية الحديثة قد أثبتت أن الأبناء غير قادرين على الاستماع للنصائح النظرية، بل يجب أن يقدم الآباء القدوة في أنفسهم في أي سلوك يبتغون من الأبناء الالتزام به، والخطوة الأولى لكي ينشأ جيل قوي نفسياً وملتزم دينياً وأخلاقياً أن يبدأ الآباء في تقديم الأشياء الأكثر ضرورة وأهمية للأبناء وهي وقتهم وحبهم واهتمامهم، بدلاً من الرفاهيات المادية التي لن تفيد في العملية التربوية بل على العكس تعمل على تقويضها.