لعل صفة «الكمال الإنساني» التي كان عليها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من حيث كونه بشراً يأكل الطعام ويمشي بين الناس، من أكثر ما يلفتنا في سيرته العطرة التي نعايش ذكراها هذه الأيام، في أي صفة من صفاته وخصائصه، ستجد المعنى التام في كونه «أسوة حسنة»، كما وصفه الحق تبارك وتعالى في كتابه الكريم، والأروع أن الأمر لن يكون فيه إعجاز ولا صعوبة ولا تباعد عن الطبيعة التي تحكم البشر.
وصدق أديب العربية والإسلام مصطفى صادق الرافعي (ت 1937م) في مقولته المبدعة: «إذا كان سيدنا آدم عليه السلام هو سر وجود الإنسانية، فإن سيدنا محمداً عليه الصلاة والسلام هو سر كمالها».
وقد كان صلى الله عليه وسلم الإنسان الكامل زوجاً، والإنسان الكامل صديقاً، والإنسان الكامل قائداً.
رغم أن مبلغ العلم فيه أنه بشر، لكنه كان خير خلق الله كلهم؛ حياة وسيرة وأثراً، كما قال البوصيري (ت 1295م).
وأحب دائماً أن أشير إلى صفة هذا الرجل، الذي أناب عنا أصدق إنابة في قصيدته الشهيرة «الكواكب الدرية في مدح خير البرية»، ومن روائع التاريخ أن يكون هذا الرجل غير عربي، فهو من أمازيغ الجزائر، وعاش بمصر ومات بها.
وستجد الصدق يقطر من كل كلمه قالها الرجل في هذه القصيدة، وهو ما كتب لها هذا الانتشار الواسع والاستمرار الممدود، وكان ملهماً في عمله هذا لكل من تناول الرسول صلى الله عليه وسلم في مدائح وقصائد.
مولاي صلى وسلم دائماً أبداً على حبيبك خير الخلق كلهم
ولو لم يقل البوصيري إلا هذا البيت لكفاه، رغم أن القصيدة كلها نحو 150 بيتاً.
وما كتبه عن المصطفى الفيلسوف العربي الكبير د. عبدالرحمن بدوي (ت 2002م) يكاد يكون من أفضل الكتابات التي تناولته سواء في معرض الدفاع عنه صلى الله عليه وسلم أو في تناول جوانب من سيرته العطرة.
وكان د. بدوي صاحب عاطفة إيمانية صادقة، لامست قلبه، في عمر متقدم، وهو الفيلسوف الذي عاش عمراً طويلاً في دهاليز هذا العلم، الذي أرهق العقل الإنساني أكثر مما أراحه وأفاده، فكان عطاؤه هذا من أكثر العطاءات قيمة وقوة في نطاق الفكر الإنساني وليس الإسلامي فقط.
وكتاباه «دفاع عن القرآن ضد منتقديه»، و«دفاع عن محمد ضد المنتقصين من قدره»، سيُقرأن بعد عشرات السنين قراءة مرجعية واسعة، وسيكونان جزءاً من المكتبة الصلبة للفكر الإنساني في العصر الحديث، والكتابان نشرتهما مجلة «الأزهر» هدية لقرائها في عهد رئاسة تحرير المفكر د. محمد عمارة رحمه الله (ت 2020م).
يقول في مقدمة كتاب «دفاع عن محمد ضد المنتقصين من قدره»: خلال تتبعي للمفاهيم التي تبناها الأوروبيون حول نبي الإسلام محمد، انتابني الذهول من جهلهم المطبق وعدوانيتهم الواضحة وأحكامهم المسبقة المتأصلة وتحزبهم الطاغي ضد خصومهم، وهذا لا ينطبق فحسب على الشعب الجاهل والساذج، ولكنه ينطبق أيضاً على أكبر علمائهم وفلاسفتهم ورجال الدين والمفكرين والمؤرخين، حتى إنه خلال القرون التي شهدت انطلاق الفكر الأوروبي من القرن الثاني عشر وحتى القرن السابع عشر، لم يكن لدى أي من المفكرين في هذه القرون الشجاعة في تحري المعرفة الحقة والموضوعية عن الإسلام ومؤسسه.
مع أنهم كانون يعرفون بشكل أو بآخر الفلاسفة والعلماء العرب، ولم يدخروا وسعاً في مهاجمة آرائهم ودينهم، ومحمد صلى الله عليه وسلم أصبح أكبر الأعداء بالنسبة للأوروبيين، وقد كانت الادعاءات والافتراءات التي تبنوها قائمة على أساطير وأكاذيب جيدة، لكتّاب لم يعدموا الجهل بالأحداث التاريخية، كما لم يحرموا موهبة تلفيق الأكاذيب.
وقد كان ثمرة هذه الادعاءات هو ما اصطلح على تسميته منذ ثلاثة قرون في أوروبا باسم «أسطورة محمد».
وهذا الكتاب جاء ليدافع عن محمد صلى الله عليه وسلم ضد هذه الافتراءات والأكاذيب التي ساقها الغربيون على سيد الخلق.
ونختم بما وصفته به صلى الله عليه وسلم زوجه السيدة عائشة رضي الله عنها قائلة: كان صلى الله عليه وسلم يحلب الشاة، ويخصف النعل، ويرقع الثوب، ويأكل مع خادمه، ويشتري الشيء من السوق ولا يمنعه الحياء أن يعلقه بيده.
يصافح الغني والفقير، ويسلم مبتدأ على كل من استقبله من صغير وكبير.
يجيب إذا دعي، ولا يحقر ما دعي إليه، لين الخلق جميل المعاشرة، طليق الوجه، شديد في غير عنف، متواضع في غير مذلة، جواد من غير سرف، رقيق القلب.
وزادت قائلة: لم يمتلئ قط شبعاً، ولم يبث إلى أحد شكوى، وإن كانت الفاقة أحب إليه من اليسار والغنى.
فمن طلب التواضع فليقتد به، ومن لم يرض لنفسه بذلك فما أشد جهله! فلقد كان أعظم خلق الله منصباً في الدين والدنيا، فلا عز ولا رفعة إلا في الاقتداء به.
كان بالفعل نموذجاً لـ«الإنسان الكامل»، صلى الله عليه وسلم.