بعد الضربة الأولى التي تلقاها جيش الاحتلال يوم 7 أكتوبر سادت الصدمة لعدة أيام قبل أن يبدأ الاحتلال بتقديم خطة هجومه المضاد الإعلامي والعسكري والسياسي.
في الشق الإعلامي، بدا واضحاً أن الإستراتيجية قائمة على إعادة تعريف الصراع باعتبار ما حصل يوم 7 أكتوبر نقطة تأسيسية يبدأ النقاش منها بالقطع مع ما قبلها لتصويرها كـ«عمل غير مبرر مهما كانت الأسباب»، وبإعادة تعريف الصراع باعتباره بين «حماس» والكيان الصهيوني حصراً، وكأن «حماس» وُلدت في الفراغ، أو كأن الرد الصهيوني على البيوت والمدارس والمستشفيات والشوارع والعائلات والأطفال هو رد حصري على «حماس»، وعلى الإصرار على وصف «حماس» بـ«داعش» للتأكيد على شيطنتها ودمغها بالإرهاب، وتصويرها في ذهن الجمهور الغربي باعتباره خطراً عليه وليس على الصهاينة فحسب، وأخيراً رفد كل ذلك بأكاذيب تتحدث عن قطع رؤوس الأطفال، واغتصاب النساء؛ باختصار كانت خطة الرد الإعلامية مبنية على التحايل الذهني والمغالطات والأكاذيب، وكانت أول جزء من إستراتيجية الرد أفصح عن نفسه مبكراً.
كانت الخطة العسكرية ثاني عناصر الهجوم المضاد تبلوراً، إذ بدا واضحاً أن الاحتلال لا يملك خياراً برياً مُعداً من قبل لمثل هذه الضربة، فلم تكن هناك قوات خاصة مدربة تعرف واجبها لتبادر لاستعادة المبادرة والاتزان في الأيام الأولى للحرب، كما كان واضحاً أن التفوق الاستخباري لم يتحقق حتى اليوم الثامن عشر للحرب، وهو ما لم يسمح باستهداف البنية القيادية للمقاومة بما يشلها أو يمنعها من مواصلة الحرب بكفاءة، فرشقات الصواريخ الكبيرة نحو العمق مستمرة، وعمليات المباغتة والاختراق البري والبحري مستمرة.
كان واضحاً إذن بأن الرد العسكري قائم على القصف الجوي، على جباية الثمن من دم المجتمع الغزي، بالانتقام منه كمجتمع «تجرأ» على إخراج قوة مقاتلة كهذه قادرة على فرض مثل هذا الإذلال على الجيش الصهيوني.
لكن هل القصف الجوي ومعادلة الدم قادرة على استعادة صورة الردع؟ قادرة على استعادة ثقة المستوطنين بما يعيدهم إلى غلاف غزة؟ قادرة على استعادة الاستثمارات؟ أو على إقناع مستوطنين جدد على مواصلة الهجرة للكيان؟ أم هي تلبي حاجة الثأر فقط؟ وبما أنها مشكوك في أن تجيب عن هذه التحديات فلا بد من عملية برية؛ لكن بغياب قوة خاصة جاهزة، ومع انهيار الفرقة الجغرافية المتخصصة- فرقة غزة، ومع احتمال نشوب حرب إقليمية أمام التوتر المتصاعد شمالاً؛ فهل العملية البرية ممكنة؟ وهل ستكون شاملة أم محدودة؟
هذه الأسئلة ما زالت تحير الجيش الصهيوني ولا يجد لها جواباً، ولذلك تمضي الحرب في يومها التاسع عشر دون حسمٍ تجاهها، مع استمرار القصف الصهيوني ومعادلة الدم، الذي يمكن مع الزمن أن ينقلب عبئاً أمام زيادة القتل وصور الضحايا، لكيان تشكل مشروعيته إحدى عقده التاريخية التي ما تزال تهدده حتى اليوم.
ضمن هذه الجدلية والأزمة العسكرية تبلورت الخطة السياسية للهجوم الصهيوني المضاد، كانت آخر العناصر تبلوراً، وبدأت من الغرب إلى الشرق، حيث حشد الغرب دعمه وشراكته العلنية والمطلقة قبل أن تتشجع الحكومة الصهيونية وتعلن خطة هجوم مضاد مبدؤها أن هذه الحرب يجب أن تنتهي بحل إجمالي لمعضلة غزة، وهذا الحل الإجمالي له ركيزتان؛ القضاء على «حماس» بالكامل كقوة سياسية وعسكرية، ولما كان مدركاً صعوبة تحقيق ذلك دون القضاء على المجتمع الغزي الذي يحتضنها، فقد مضت الخطة أبعد لتقدم تهجير غزة باعتباره عنوان الحل.
تشابه خطة الرد السياسي الخطة العسكرية في منطقها: الانتقام باستخدام فائض القوة حتى أبعد مدى ممكن، بغض النظر عن الإمكانية.
سلاح التهجير
يشكل الهجوم المضاد السياسي هذا تعبيراً غاضباً عن الرؤية المركزية التي بنيت عليها الصهيونية في جيناتها، التي لم تنجح في تقديم أي حل غيرها لكل معضلاتها؛ القتل والتهجير، وما لا يتم بالقتل والتهجير فيتم بمزيد من القتل والتهجير، هذه الإستراتيجية الأحادية المتيبسة هي عملياً إحدى المحدوديات التاريخية للكيان الصهيوني كما هي عقدة المشروعية تماماً، إذ من البدهي أنه لا يمكن الاستجابة لكل التحديات بإجابة واحدة.
جواب الصهيونية على زيادة نسبة حضور الفلسطينيين في الداخل المحتل هو «الترانسفير»، وعلى الوجود الفلسطيني في القدس التهجير، وفي الضفة الغربية «الترانسفير»، واليوم في غزة من جديد «الترانسفير»، بغض النظر عن الإمكانية، بغض النظر عن امتلاك خطة واضحة، فالجواب هو «الترانسفير»، والتكيف بالتكديس في مساحة جغرافية صغيرة أو بخنق اللغة والهوية هي استجابات مؤقتة على طريق «الترانسفير»؛ هذا ما أفشل «أوسلو» رغم كل ما أبدته قيادة السلطة من سيولة، وهذا ما يجعلها تحول تدريجياً سلامها الدافئ رسمياً مع الأردن إلى خطر وجودي عليه رغم كل النوايا الحسنة لدى الأردن الرسمي تجاه الكيان الصهيوني.
ليس هناك عبقرية أو اختراق أو تجلٍّ جديد لا نعرفه للصهيونية في طرحها التهجير باعتباره حلاً لقدرة غزة على التحول من الدفاع للهجوم؛ لكن هل حقاً يمكن للصهاينة تهجير غزة؟ وهل طرح الفكرة ينم عن امتلاك مخطط أم هو هاجس مركزي يعاد التعبير عنه في لحظة الأزمة؟
هل حقاً موقع الصهاينة في الحرب يسمح بالتهجير؟ إذا كانت الضربة البرية الأولى انتهت إلى هزيمة مذلة للجيش الصهيوني وتفكيك «فرقة غزة»، فكيف سينتقل من هناك لـ«الترانسفير»؟ هل يمكن فرض التهجير من الجو؟ التجربة في التاريخ الفلسطيني تقول: إن هذا لم يحصل، وإن القوة البرية التي كانت تدخل إلى المدن والقرى وترتكب المجازر من مسافة قريبة وبالسلاح الأبيض أحياناً مبالغة بالدموية كانت هي سلاح التهجير، وهذا بعيد عن الإمكانية الصهيونية اليوم.
لقد كان منهج الاحتلال في التهجير هو إدخال مستوطنيه للاحتكاك بمواقع التهجير والمبادرة للاشتباك بطليعة عسكرية مجرمة، لكنه اليوم في غزة يفعل العكس تماماً، يهجر مستوطنيه بعيداً عن نقاط الاحتكاك، وهو نقيض سلوكه في تجارب التهجير الناجحة، والمستمرة حتى الآن في ريف الضفة الغربية.
وهل سيناء تصلح مقصداً للتهجير أساساً؟ التجربة التاريخية تقول: إن مصر كانت الدولة العربية الوحيدة التي لم تقبل لاجئين من فلسطين داخل حدودها منذ عام 1948م لخصوصيات كثيرة لا مجال لتفصيلها، وطرح مصر باعتبارها الشريك المحتمل للتهجير يعبر أبلغ تعبير أننا أمام نزوع نفسي صهيوني ولسنا أمام خطة مدروسة ومفكر بها.
ثم ما موقف أهل غزة أساساً؟ لقد كان ردهم الواضح بأن الجنة أقرب من أي نقطة حدودية إلى خارج فلسطين، وبأنهم من بين الأنقاض ما زالوا يحتضنون المقاومة في قلوبهم، فحتى لو وجد شرط التعاون العربي –وهو غير موجود- فشرط استعداد المجتمع للهجرة مفقود، خصوصاً مع تجارب لجوء مريرة.
أمام هذا الاستعراض للخطة الإعلامية والعسكرية والسياسية للهجوم المضاد، فإننا نخطئ كثيراً إن بقينا في الموقف العربي المعتاد الذي ينتظر مبادرات العدو المباغتة والمتفوقة، فنحن في هذه الحرب أمام ردود فعل نفسية، نحن أمام عدو ما زال لم يتمكن من «عقلنة الحرب» أمام صدمة الضربة الأولى، وهو ما يفرض علينا التفكير بالمبادرة لتشكيل المشهد عوضاً عن انتظارنا المعتاد، مبادرة يمكن اشتقاق عناوين شعبية أساسية لها منذ الآن في فرض ثلاثة اتجاهات؛ الوقف الفوري للعدوان لوقف القصف ومعادلة الدم وخفض الألم الإنساني الناتج عنها، والضغط لدخول المساعدات الطبية وعناصر الحياة الأساسية بشكل فوري وبما يتجاوز الحصار، والضغط لجعل التطبيع جزءاً من الماضي حتى في دول التطبيع القديم مثل الأردن ومصر، وهذه مسارات ممكن التقدم فيها والمراكمة بالجهد والعمل، عوضاً عن التحول إلى جمهور أمام رهانات التهجير الذي لا يعدو أن يكون حلماً صهيونياً بعيداً عن المتناول بل هو أقرب إلى الوهم.