الإنسان الفرد هو أساس المجتمع وعماده الأول، ومحور هذا الكون، وأهم لبنة في صرحه الشامخ، وبنيانه السامق، فهو مدني واجتماعي بطبعه، يبدأ حياته بمركب مزدوج؛ أبيه وأمه؛ لذا فالأسرة هي المحضن الأول.
وهو كذلك ابن بيئته وأسرته؛ فهي تؤثر في تكوين سلوكه وأفكاره وقيمه وعاداته ودينه وثقافته ولغته، وهي الأرض الخصبة التي يمكن أن نزرع فيها كل معاني الحب والرحمة والفضيلة في نفوس الناشئة.
نداء الفطرة مغروس في نفس المسلم يدفعه إلى الهدى ويبصره بالطريق إذا ضل
الناس في أصل الخلقة جُبلوا على التوحيد وفُطروا عليه، وهذا ما تنطق به آيات القرآن الكريم وتبرهن عليه، قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا) (الأعراف: 172)، (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30).
وهذا المعنى كان واضحاً أيَّما وضوح في أذهان الصحابة الأجلاء رضي الله عنهم، فقد مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمعاذ بن جبل فقال: ما قوام هذه الأمة؟ قال معاذ: ثلاث وهن المنجيات: الإخلاص وهو فطرة الله التي فطر الناس عليها، والصلاة وهي الملة، والطاعة وهي العصمة، فقال عمر: صدقت(1).
ونداء الفطرة مغروس في نفس المسلم يدفعه إلى الهدى، ويرده عن الردى، ويبصره بالطريق إذا ضل أو غوى.
زهرة من بستان السُّنة
من حديقة السُّنة المطهرة نقتطف هذا القبس النبوي الشريف، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود يولد إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟»، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: «فطرة الله التي فطر الناس عليها»(2).
للبيئة التي ينشأ بها الإنسان النصيب الأكبر في تقويم سلوكه وصناعته فكرياً ونفسياً
وبنظرة متأملة في ظلال هذا الحديث النبوي الشريف، تظهر عدة دروس دعوية وتربوية مهمة، منها:
أولاً: أن القاسم المشترك بين الناس جميعاً مؤمنهم وكافرهم هو الفطرة السليمة، وهي صبغة الله التي صبغ الناس بها، وهم بعد ما زالوا في عالم الذر وفي دنيا النطف، وهذه الفطرة هي الأساس القويم، وأن البعد عنها يؤدي إلى الانحراف عن الجادة والطريق المستقيم، وعلى المربي ضرورة الحفاظ على هذه الفطرة بالطاعات والصالحات، والحذر كل الحذر من انتكاسها بالرذائل والمنكرات.
ثانياً: أن للبيئة التي ينشأ فيها الإنسان النصيب الأكبر في تقويم سلوكه وتهذيب أخلاقه وصناعته فكرياً ونفسياً وعاطفياً، وكم في البيئات من مفارقات عجيبة؟!
فمن الناس من ينشأ في بيئة قوامها تلاوة القرآن الكريم وحب الصالحين، والألفة والمودة والتراحم ولين الجانب وطلاقة الوجه وحب الخير للناس، وديدنها جميل الفعال وكريم الخصال، فهذا مورد عذب وماء رواء، والنتاج الذي يخرج منه يرتوي من معين مائه وعذب فراته.
ويقابله من يخرج في بيئة قوامها اللهو والمجون، وتتسم بالكبر والعُجب والتيه والغرور وضياع الأوقات والانغماس في الشهوات، فينشأ ويترعرع على هذه الخصال المذمومة والآفات المهلكة والرذائل الممجوجة، لا هدف له ولا غاية عنده، إنه فعلاً هياج بلا نتاج، وهيهات أن يستقيم الظل والعود أعوج!
معرفة الطريق إلى تربية الصبيان من أهم الأمور وأوكدها والصبي أمانة عند والديه
ثالثاً: أن الوالدين هما قائدا السفينة ومحركا الشراع؛ فإما إلى السلامة، وإما إلى الندامة، وليكن معلوماً أن الطريق إلى تربية الصبيان من أهم الأمور وأوكدها، والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة، خالية عن كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نُقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عوّد الخير وعُلّمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم له ومؤدِّب، وإن عُوّد الشر وأُهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيّم عليه والوالي له، وقد قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً) (التحريم: 6).
ومهما كان الأب يصونه عن نار الدنيا، فأن يصونه عن نار الآخرة أولى، وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق، ويحفظه من قرناء السوء، ولا يعوّده التنعم، ولا يحبب إليه الزينة والرفاهية؛ فيضيع عمره في طلبها إذا كبر فيهلك هلاك الأبد، بل ينبغي أن يراقبه من أول أمره، ومهما رأى فيه من مخايل التمييز فينبغي أن يحسن مراقبته(3).
ويبقى الوالد هو القيم القائم على بيته، وهو رب الأسرة المسؤول عنها في الأولى والعقبى، وعلى القائد أن يكون ماهراً فطناً يدرك طبيعة الطريق، وإلا غرقت السفينة في عباب البحر وابتلعها اليم وصارت حصيداً كأن لم تغن بالأمس.
_____________________
(1) تفسير القرآن العظيم (2/ 2231).
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (3/ 270).
(3) تهذيب موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين (2/ 16/ 17).