في شمال كاليفورنيا، ولدت لوريل هيل التي أصبحت «رقية» لاحقًا، وعاشت مراهقتها في إمبراطورية الحريات الأمريكية، لكن بعد سنوات تتكشف الأقنعة حول رداءة الحياة الغربية؛ حيث السعي المحموم للتحرر من الدين، فلا محرمات ولا شرائع، فقط ضوابط يضعها البشر وفلسفات ليبرالية تجعل كل شيء مجرد سلعة، حتى القيم نسبية، والفطرة مقلوبة، والنساء المستقلات بائسات، والأسر مفككة، والمجتمع المتطور ماديًا وتكنولوجيا لا يفلح في إنقاذ نفسه روحيًا، من هذا الخواء العظيم!
في كتاب رقية عبدالسلام «التحرير المثالي للمرأة.. مقارنة بين المفهوم الإسلامي والغربي»، تسعى لمعرفة سر غياب السعادة الحقيقية عن مجتمعها الذي نشأت فيه، وتقترب من دين الإسلام لتجد فيه كل القيم التي تقرها الفطر السليمة، وتجد أن الغرب يطرح «أشكال استعباد بشري متخف في أشكال محيرة»، ويصبح التحرير ليس من الاضطهاد أو انتهاك حقوق الإنسان، كما تروج ماكينة الإعلام، لكن من أي محظورات، حتى لو كانت مشروعة ومهمة لحماية المجتمع؛ فيصبح تغطية المرأة لجسدها اضطهاداً وليس صيانة وتحرراً حقيقياً ممن يريد استباحتها، ويصبح الالتزام بالشرائع سجناً وليس طلباً للسعادة في الدنيا والآخرة.
يأتي ذلك بينما يعاني المجتمع الغربي رغم تقدمه العلمي من شيوع الفساد الأخلاقي، وتزايد حالات الاغتصاب والتحرش الجنسي وشيوع الإجهاض والإيدز والعلاقات خارج الزواج، فيما تنتشر المظاهرات الداعية للشذوذ، ويرفع البيت الأبيض وكثير من أعضاء البرلمانات الأوروبية أعلام «الرينبو» الداعمة لهؤلاء.
وفي الحقيقة، فإن أوروبا لم تعرف أبداً تحريراً للإنسان أو للنساء في تاريخها؛ وكان وضع النساء في الحضارة الرومانية -وفق الموسوعة البريطانية- كملكية مطلقة للأزواج، أقرب للعبيد، بلا أي حقوق أو حريات أو ملكية، بل كان يحق للزوج الحصول على أي ربح أو عائد تجنيه، أو بيعها هي شخصياً لتسديد ضرائبه!
التحرير الكاذب
لو تأملنا دراسات واستطلاعات الرأي عن مراكز الدراسات الأوروبية والأمريكية، سنرى مأساة تحرير المرأة في الغرب، وحسبما ينقل د. إياد قنيبي، في دراسته «تحرير المرأة الغربية.. القصة الكاملة»، فقد عانت المرأة الأوروبية من الاضطهاد بالفعل في ظل القرون الماضية، فقامت الحركات النسوية داعية للمساواة بالرجل، ووصل الأمر لاحقاً للمطالبة بهدم نظام الزواج واعتباره سبباً لتعاسة المرأة واضطهادها!
لقد استغل النظام الرأسمالي وقادته هذه الحركات لتحصيل مزيد من الضرائب من النساء واستغلالهن كعمالة أرخص، ما أدى لتحويل المرأة لسلعة، ونشوء ظاهرة «sugar baby»؛ أي مرافقة فتيات لأجل المتعة مقابل منحهن المال، وفي النهاية تسقط تلك الفتيات ضحية لحياة سوداء مليئة بالعار، وتضطر معظمهن لتعاطي المخدرات وربما الانتحار.
ووفق مقال منشور بشبكة «بي بي سي»، فإن التحرش بالمرأة العاملة في بريطانيا بنسبة واحدة من كل أربع، وهو ما يحدث في جامعات ومكاتب العمل في أمريكا وأوروبا، وهناك أرقام مفزعة عن حالات الإجهاض التي بلغت مليون حالة سنوياً في أمريكا وحدها، نتيجة علاقات غير مشروعة في معظم الحالات.
في خضم هذه الثورة المستعرة لتحرير النساء، تعالت أصوات كثيرة قائلة: إذا أصبحت قيمة المرأة تقاس بإنتاجها المادي، فمن سيرعى الأبناء؟ فكان الرد: فليذهبوا للجحيم! أنتم تريدون عودة المرأة للاستعباد! وهكذا تم تنميط كل الدعاوى العاقلة لإعادة الاعتبار لدور النساء داخل الأسرة، مع السماح لهن بالعمل وفق شروط لا تقضي على حياتهن كأمهات وزوجات، لكن للأسف وصمت كل تلك الدعاوى بالرجعية، ولم يتمعن أحد في التحقيقات التي كشفت تلقي مشاهير الناشطات النسويات تمويلاً مباشراً من الاستخبارات الأمريكية، ومن هؤلاء جلوريا ستاينم، كما نقل كتاب «The mighty Wurlitzer»، وهي سياسة اتبعها «CIA» في اختراق الفئات كالنساء والسود.
تفكك الأسرة
عقد أول مؤتمر لحقوق المرأة في الولايات المتحدة الأمريكية 19 يوليو 1848م، وأصدرت المشاركات إعلاناً يطالب بالمساواة التامة مع الرجال أمام القانون، ثم جاءت الموجة الثانية للنسويات في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وطالبن بمساواة مع الرجال، بل وتمادين بالتشكيك في قيمة الأسرة، وشجعت الوثيقة التحرر الجنسي خلال تلك الفترة، ثم تطورت النسوية لتصبح في موجتها الثالثة بعد الألفية كياناً منظماً ذا ثقل سياسي كبير، وتأثير على السياسات العامة.
وبحسب كتاب «خطايا تحرير المرأة» للكاتبة الأمريكية كاري إل لوكاس، عضو بالحزب الجمهوري الأمريكي، مديرة السياسات، نائبة الرئيس لمنتدى المرأة المستقلة، فقد تمادت النسويات لشرعنة الممارسات الجنسية الشاذة، وتقديم نظرة عدائية للأسرة وقيمها، والحديث عن حق المرأة في الإجهاض، كما تدافع النسويات عن حق المرأة في الطلاق بمجرد عدم الشعور بالراحة، ومن هنا بدأت شريحة كبيرة من النساء حتى في تلك المجتمعات تنظر بالريبة لدعاوى النسوية أو «الفيمينيزم»، ويؤكدن في الاستطلاعات أنها لا تعبر عنهن، بل أجندة أصحابها.
ينكص كثير من أنصار الفكر النسوي أمام فرضية وجود اختلافات فطرية بين الرجال والنساء، وبحسب كتاب د. ستيفن رودس أخذ الاختلافات بين النوعين على محمل الجد، فإن الحركات النسوية تستهدف مجتمعات محايدة خالية من التصنيف الجنسي، إلى الحد الذي يدعون فيه الآباء لعدم تمييز ألعاب وألوان ملابس أطفالهم ذكوراً وإناثاً، وصولاً لمجتمع مخنث خال من التمايز!
في كتاب «الهروب: لماذا تتحسن حالة النساء اللاتي قررن إنهاء زيجاتهن؟» للكاتبة النسوية آشتون إبليلوايت، سنرى استفتاء أجرته مع مبحوثات وتضمن إشارة واضحة لاحتقار مؤسسة الزواج، ووصمها بالعبودية، والشعور بالسعادة والنجاح في التخلص من عقدة الخوف بعد التخلص منها والاستقلال عنها!
التحرر الإسلامي
من الأمور الحاسمة في الأجندة الليبرالية تحويل الرغبات غير المعيارية للقلة إلى حق مقدس يجب الموافقة عليه ثم الاحتفال به من قبل الجميع، مهما بدت شاذة، وفي كتابه الأشهر «الحداثة السائلة»، يقر زيجمونت باومان بأن مهمة الحداثة كانت إطلاق حرية التحقق والاختيار الإنساني من أسر الغيب وغياب اليقين، وضمان الفردية والحرية والخروج من التقاليد، لكن وجدنا أنفسنا وسط ارتباكات وأنواء تلك السيولة التي حولت كل شيء لسلعة في يد الرأسمالية، بمن في ذلك الأسرة، وانكفأ المجتمع والأفراد على ذواتهم، وتراجع اهتمامهم بالشأن العام والمشترك الإنساني وتصورات الخير العام، وتغول المجال الخاص، وتلاشت الخصوصية والتنوع الثقافي في ظل سيطرة ثقافة السوق الرأسمالية.
يقول الله تعالى عن خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء في قومه فنقلهم من الجاهلية لنور الهداية: (يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف: 157)، وتلك هي الحرية في الإسلام التي يصفها الشيخ راشد الغنوشي بكونها: «الخضوع الواعي لنواميس الكون والشرع، إنها ليست استباحة، افعلوا ما تمليه عليكم رغائبكم، فتلك حرية الحيوان، وإنما افعلوا الواجب الذي أمركم الله به تتحرروا من أهوائكم ومن تسلط بعضكم على بعض، إن الحرية والمسؤولية لا تنفصلان، ومن تمرّن في مدرسة العبادات الإسلامية بوعي وإخلاص يبلغ من التحرر مبلغاً لا يطاله غيره.