الاعتذار أدب اجتماعي في التعامل الإنساني، ينفي عنك شعور الكبرياء، وينفي من قلب أخيك الحقد والبغضاء، ويدفع عنك الاعتراض عليك، أو إساءة الظن بك، حين يصدر منك ما ظاهره الخطأ.
إن الاعتذار عما بدر منّا من خطأ ليس ضعفًا، كما يظنه بعض الناس، بل هو في الحقيقة قوة وشجاعة وثقة، ونقاء وصفاء نفس.
والاعتراف بالخطأ دليل على نُبل النفس ورقيها، وسماحة الأخلاق وسموها، ونضج في العقل والتفكير، ورغبة في الصلاح والتغيير، إن المؤمن الحق لا يجد في نفسه غضاضة في الرجوع للحق، والإقرار بالذنب في شجاعة وصدق، طلبًا للعفو والصفح والغفران، سواء أكان خطؤه في جنب الله، أم كان في حق إنسان، قال تعالى مادحًا عباده المؤمنين: “وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ” (آل عمران 135)، وعن أنس بن مالك، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه، أنه قال: “كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاءٌ ، وخيرُ الخطَّائينَ التَّوَّابونَ”.. ومن المروءة وكرم النفس أن يقبل الكريم اعتذار المخطئ وأن يقيل عثرته.
ولقد حكى لنا القرآن الكريم صورًا من عواقب الاعتذار الحميدة، وما أورثه لأصحابه من حياة سعيدة، وما خلّده لهم من ذكريات عطرة مجيدة، فهذه ملكة سبأ منّ الله عليها، فأشرقت فضائل الفطرة في قلبها، وتحكّم صحيح العقل في موقفها، فأعلنت لله رجوعها ومتابها، وصرّحت بندمها واعتذارها، فخلّد الله ذكرها في الخالدين، وأدخلها برحمته في عباده المؤمنين، قال سبحانه وتعالى: “قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ” (النمل 44).
وحكى الله عن رسوله موسى، عليه السلام، فقال سبحانه: “قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ” (القصص 16 و17).
وللاعتذار فوائد اجتماعية عديدة، فهو يضمد جراح الشحناء، ويزيل العداوات والبغضاء، علاوة على ما فيه من تهذيب لنفس الإنسان، وكبح لدوافع الحقد والعصيان، فتظهر أخلاق فاعله سهلة راقية، ويجعل همته بنّاءة عالية.
إن الكلمات المعبّرة عن الأسف على التقصير، تُضفي على العلاقات جوًا من الأنس، لتزيح عنها غبار القطيعة، ولذلك كانت عظيمة النفع طيبة الأثر، إذا زُينت بها العلاقة بين أفراد الأسر، فما أروع أن يكون الزوجان قدوة لأولادهما في العفو والتسامح، يظهران أمامهم بمظاهر الحب والتراضي والتصالح، فالعلاقة الزوجية من أسمى العلاقات وأرفعها، فعليها يقوم بناء المجتمع، والاحترام بين الزوجين مهم جدًا في توثيق عرى الأسرة، وأي مظهر من مظاهر عدم الاحترام سيكون بلا شك سببًا في تحطّم الأسرة وانهيارها، ونظرًا لما تتمتع به هذه العلاقة من خصوصية، وما تستغرقه من جل الحياة الزمنية، كان وقوع التقصير من أفرادها أكثر توقعًا، ولذلك كانوا مطالبين بأن يكونوا عن تتبع الزلات أكثر ترفعًا، مع التأكيد على ضرورة الحرص على الاعتذار وتلطيف الأجواء، بغض النظر عن مبدأ الزلل من أين جاء.
كما ينبغي تربية الأولاد على خلق الاعتذار، بكسر حواجز الأنانية، وما يوجد في كثير من الطبائع الإنسانية، من الامتناع عن قبول التخطئة، والحرص على التنزيه والتبرئة.
ولقد أورد القرآن الكريم صورة رائعة لما ينبغي أن يكون عليه التسامح بين الإخوة، قطعًا لأسباب الخصومة وعوامل الجفوة، وذلك فيما حكاه سبحانه عن يوسف، عليه السلام، وإخوته، فمع عظم خطئهم الذي اقترفوه، وما ناله منهم وما اجترحوه، إلا أنه قابل اعتذارهم بالقبول، قال، سبحانه وتعالى: (قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف 91 و92).
بمثل هذا الود والاحترام، تترابط الأسرة المسلمة برباط المحبة والوئام، وتُصان برابطة لا يعتريها خلل ولا انفصام، فما أحوج أسر اليوم إلى هذا المستوى الراقي من العلاقات، الذي تذوب معه كل أسباب المشاحنات، وتنبت به أزهار المودة الزاكيات.
اعتذر رجل إلى إبراهيم النّخعيّ، رحمه الله تعالى، فقال له: قد عذرتك غير معتذر، إنّ المعاذير يشوبها الكذب.
وقال الحسن بن علي، رضي الله عنهما، فيما يُروى عنه: لو أن رجلاً شتمني في أذني هذه، واعتذر إليَّ في الأخرى لقبلت عذره، وقال الأحنف بن قيس، رحمه الله: إن اعتذر إليك معتذر تلقه بالبِشْر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقلاً عن صحيفة “الشرق”.