إن مدرسة شهر رمضان والصيام فيه مدرسة جامعة لكثير من العبادات التي تعمل على تنقية العبد من ذنوبه وأدرانه، وترقيته في مراقي القرب والوصول.
والصيام باب واسع من أبواب القرب إلى الله تعالى؛ ومن لطائف المعاني أن تجد قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: 186) متبوعة بآية من آيات الصوم، وهي قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) (البقرة: 187).
فمن الاستجابة لله والإيمان به المفضيين للرشد أن تصوم رمضان، وقد فتح المولى باب القرب ولم يبق إلا ولوجه والدخول من خلاله.
والقرب من الله يوجب «الأنس، والأنس ثمرة الطاعة والمحبة؛ فكل مطيع مستأنس، وكل عاص مستوحش»(1).
والأنس الطبيعي بالزوجة لا ينافي أنس القلوب بطاعة الله تعالى، ورسول الله ﷺ كان ينبسط إلى نسائه، ويسابق عائشة رضي الله عنها، ولم يخرج عن الأنس بالله(2)، لكن يجب ألا يطغى الأنس بالزوجة والقرب منها على القلب فينسى الأنس بالله، والذي هو مقام عال من مقامات الإيمان.
والإنسان لا يأنس بغائب؛ إذ يحتاج لحاضر يبثه همه، ويشكو له ألمه، ويسمع منه نجواه، ويعينه في قضاء حوائجه؛ لذا فإن الذي يستحضر الله تعالى في كل أحواله هو الذي يعاين مقام الأنس بالله.
وهذا المقام شاهده نبي الله يعقوب عليه السلام حينما قال لأولاده: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (يوسف: 86)؛ فوجودهم حوله لم يؤنسه، ووجد أنسه في معية الله.
ثم إن الذي يأنس بالدنيا وملذاتها وشهواتها وبالناس بصحبتهم وينغمس في ذلك يخصم ذلك من أنسه بالله تعالى؛ لذا قال ذا النون المصري: «الأنس بالله نور ساطع، والأنس بالناس غم واقع»(3).
والأنس بالله، كما يراه رويم بن أحمد: «سرور القلب بحلاوة الذكر والخطاب»(4)؛ فمن تأنس به لا تمل حديثه، ولا المكوث بين يديه، وتطمئن وتأمن وأنت في حضرته، وتنسى كل العوالم فلا ترى سواه.
مواضع تجد فيها الأنس بالله:
– في الصلاة:
يصلي الإنسان في رمضان ما لا يصليه في غيره من الشهور؛ فتجده يحافظ على الصلوات المفروضة ونوافلها إلى جانب قيام رمضان، وهذا التكثيف في الصلاة إذا تم على وجهه الأكمل فإن القلب يصفو من الأكدار، فينعكس ذلك على عمل الجوارح، يقول سيد قطب: «وإقامة الصلاة وأداؤها على وجهها وفي وقتها أداء كاملاً تتحقق به حكمتها وأثرها في الشعور والسلوك، وتنعقد به تلك الصلة الوثيقة بين القلب والرب، ويتم به هذا الأنس بالله وتذوق حلاوته التي تعلق القلوب بالصلاة»(5).
– في المناجاة:
الصائم له دعوات مستجابات؛ فإذا كان هذا جزاؤه من رب الأرباب فلا يفرط فيها، وليكثر من الدعاء والضراعة والاستغاثة والمناجاة، وليطلب ما يشاء من مولاه، وليقدم بين يدي ذلك بحسن الثناء عليه بصفاته ومحامده وآلائه؛ قال ﷺ: «ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم..»(6).
– في قراءة القرآن:
ارتبط رمضان بالقرآن؛ قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة: 185)، والذي لا يفرط فيهما في دنياه يشفعان له في أخراه؛ قال ﷺ: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد؛ يقول الصيام: رب إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل، فيشفعان»(7).
والمحب لله والمؤتنس به لا يشبع من سماع كلام ربه؛ يسمعه ليقيم حدوده وحروفه ولا يضيعه، وقد قيل لذي النون: ما الأنس بالله؟ قال: «العلم والقرآن»(8).
– في الذكر:
إن مقام الإحسان أن تعبد الله تعالى كأنك تراه، لا يغيب عنك حضوره، فلا يفتقدك حيث أمرك، ولا يجدك حيث نهاك، تذكره في كل حركاتك وسكناتك، وإذا ذكرته بلسانك تستحلي الذكر، ويستولي على قلبك حبه وهيبته، ثم «إن المستغرقين في التسبيح والتقديس يحصل لهم من الأنس بالله ما يجعل العالم كله في نظرهم مسبحًا، وكأن العوالم كلها تنطق لهم به بلسان أفصح من لسان المقال، ولا يدرك هذا أحد إلا بوجدانه»(9).
وإدمان الذكر يورث الأنس؛ والنفس متمردة تبحث عن الشهوات والملذات، والصيام يهذبها؛ إذ يحرمها من الحلال لكيلا تقع في الحرام، وهي «لا تألف ربها، ولا تأنس بذكره إلا إذا فطمت عن عادتها وحفظت عن شهواتها بالخلوة والعزلة أولاً ليحفظ السمع والبصر عن المألوفات، ثم بإدمان الذكر والدعاء في تلك الخلوة إلى أن يغلب عليه الأنس بالله وبذكره، فحينئذ يتنعم به في نهايته، وإن شق عليه في بدايته»(10).
من آثار الأنس بالله
إنه في رمضان تجتمع الأمة على الصيام والقيام والصدقات، وليس الأمر مقصورًا على اجتماع الأجساد، بل المراد اجتماع قلوب المؤمنين فتأتلف فيما بينها، ويوالي بعضهم بعضًا، ويكونون يدًا على من سواهم، وقد قال عليّ بن سهل: «الأنس بالله أن تستوحش من الخلق إلا من أهل ولاية الله؛ فإن الأنس بأهل ولاية الله هو الأنس بالله»(11).
والعلماء الربانيون والأولياء الصالحون من أهل الولاية؛ لذا فإن مصاحبتهم وملازمتهم والتعلم منهم واجب على أهل الطريق؛ والعزلة عنهم والطعن فيهم والوحشة منهم علامات للضلال، وقد قيل: «ومن الأنس به: الأنس بالعلماء، والتقرُّب من الأولياء»(12).
من أنس بالله في الدنيا؛ آنسه الله في قبره، وقرَّبه منه في الآخرة.
__________________________
(1) مدارج السالكين لابن القيم (2/ 406).
(2) انظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي، ص360.
(3) شعب الإيمان للبيهقي (1/ 375).
(4) تهذيب الأسرار للخركوشي، ص82.
(5) في ظلال القرآن (5/ 2783).
(6) أخرجه أحمد في مسند أبي هريرة، ح(8043)، وقال الأرنؤوط: حديث صحيح بطرقه وشواهده.
(7) أخرجه الحاكم في المستدرك، (1/ 740)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
(8) حلية الأولياء للأصبهاني (9/ 377).
(9) تفسير المراغي (17/ 58).
(10) الزواجر عن اقتراف الكبائر للهيتمي (1/ 144).
(11) شعب الإيمان للبيهقي (1/ 376).
(12) قوت القلوب للمكي (1/ 365).