– لم ترهبه أدوات القمع على مدى عمره الطويل المليء بالعلم والعمل ونشر الدعوة وتربية الأجيال وتنمية الوعي
– كان مؤمنًا أن التربية الإسلامية هي أقصر الطرق إلى بناء مجتمع إسلامي ومن ثم الدولة الإسلامية
– غيّر اتجاه المجتمع ليعود الناس إلى الإسلام ويلتزموا بتعاليمه في العلم والعمل والمظهر والمخبر وينطلقوا لبعث القيم الإسلامية
– يعد من أشهر الدعاة الذين تناولهم السادات في خطابه يوم 5 سبتمبر 1981 قبل اغتياله بشهر
– رفض العنف بشدة ورأى أنه لا يفيد الدعوة ولا المجتمع ولا يحقق نتائج إيجابية
– لم يترك كتباً أو مؤلفات ولكن متابعيه سجلوا خطبه ودروسه على شرائط بلغت المئات
هذا عالم دين قام بواجبه في ظل ظروف صعبة إرضاء لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لم تخفه أدوات القمع، ولم ترهبه المعاناة على مدى عمره الطويل الذي امتد ليقترب من المائة عام مليئة بالعلم والعمل، ونشر الدعوة وتربية الأجيال، وتنمية الوعي، وقبل ذلك وبعده، إقامة الصلاة، عنوان الدين والدلالة عليه، وطريق النهي عن الفحشاء والمنكر والبغي.
الشيخ أحمد عبد السلام المحلاوي، إمام مسجد القائد إبراهيم بالإسكندرية، واحد من أبناء الريف المصري البسطاء، وتلميذ من تلاميذ الأزهر الشريف الأذكياء، شغل مصر والمصريين منذ ستينيات القرن الماضي حتى رحيله في مارس 2024م، وغيّر اتجاه المجتمع في الإسكندرية، وبالتالي في مصر ليعود الناس إلى نبع الإسلام الصافي، ويلتزموا بتعاليم الدين الحنيف في العلم والعمل، والمظهر والمخبر، وينطلقوا لبعث القيم الإسلامية في أرجاء المجتمع.
أقصر الطرق
كان مؤمنا أن التربية الإسلامية هي أقصر الطرق إلى بناء مجتمع إسلامي، ومن ثم الدولة الإسلامية، وتجلى ذلك في المواقع والمؤسسات التي عمل بها، وانطلق منها لتطبيق منهجه التربوي، مما يجعل القول بتغيير الإسكندرية صحيحًا على النحو الذي سنوضحه فيما بعد.
الشيخ المحلاوي ابن رجل فلاح من قرية تسمى محلة القصب، إحدى قرى مركز كفر الشيخ، حيث ولد فيها أول يوليو 1925م، وتوفي بالإسكندرية في 10 مارس 2024م، وكان والده -كما يقول- رجلاً يزاول الفلاحة دون إجادتها، وانفصل عن إخوته، مما دفعه للانتقال إلى البراري شمالًا، فأقام في قرية تسمي «الشمارقة»، وعمل هناك مقاول أنفار، بعدها باع بعضًا من حلي الوالدة واشتري قطعة أرض في المنطقة، ومن بعدها عزّ عليه أمر إخوته فاشتري لهم أرضاً إلى جواره، مع أنهم أخرجوه منها في السابق، وكوّنوا عزوة، وعزبة تسمى عزبة المحلاوي.
مئات الشرائط
لم يترك الشيخ آثارًا من الكتب أو المؤلفات، وإن كان بعض محبيه قد نشروا كتيبات فرّغوا فيها بعض خطبه ودروسه، ولعلي رأيت في السبعينيات بعضا منها في «دار الاعتصام» و«المختار الإسلامي»، ولكن متابعيه سجلوا خطبه ودروسه على شرائط بلغت المئات، وكانت تلقى رواجًا ملحوظًا لسهولة سماعها في المسجلات، وإفادة عدد كبير من المستمعين.
ربما كان أفضل ما تركه مكتوبًا حديثه المطول إلى صحيفة «المصري اليوم» الذي نشر على أربع حلقات متتابعة بدءاً من الثلاثاء 6 مايو 2008م، وسجل فيه آراءه حول كثير من القضايا الخاصة والعامة، وهو ما اعتمدنا عليه بصورة أساسية في كتابة هذه الترجمة الموجزة.
تخرج الشيخ في قسم القضاء الشرعي بكلية الشريعة جامعة الأزهر عام 1957م، وعمل في عام 1958م إمامًا وخطيبًا بوزارة الأوقاف المصرية.
مسجد السطوحي
وعين في البداية بمدينة البرلس، إماما لمسجد يسمى السطوحي، وكان للناس هناك عادات وتقاليد لا تتفق مع صحيح السلوك الإسلامي، مثل إقامة المولد السنوي، ورفع الرايات ودق الطبول، وحضور الدراويش، والدوران حول الضريح وإضاءة الشموع ونحو ذلك، فجعلهم الشيخ يتخلون عن هذه العادات، ويتجهون نحو العبادات الصحيحة.
واستمرت إمامة الشيخ المحلاوي لمسجد السطوحي حتى عام 1963م، لينتقل بعدها إلى محافظة الإسكندرية بناء على أمر وتكليف من وزير الأوقاف وقتها د. محمد البهي، فيبدأ فصلًا جديدًا من فصول حياته في مسجد سيدي جابر، أسماه الشيخ بمرحلة الانتقال «من عالم الريف إلى عالم البنطلون والميني جيب»، ويرجع فايز النوبي، أحد تلامذة الشيخ المحلاوي المقربين، سبب هذه الترقية إلى أن د. البهي «وجد أن الشيخ المحلاوي من الأئمة النشيطين، والعلماء المتميزين، الذين ينبغي أن يَعُمَّ النفعُ بهم وتستفيد منه جماهير الإسكندرية، فنُقِل إليها وعمل بمسجد سيدي جابر، الذي جعل منه الشيخ شعلة نشاط حقيقية».
الذهاب إلى الشباب
يقول الشيخ: «عندما جئت إلى الإسكندرية لم يعجبني أسلوب الدعوة، فلم يكن يوجد بالمسجد سوى موظفي المعاشات والبوابين، لا توجد امرأة، ولا يوجد شاب، فقررت حينذاك الذهاب إلى الشباب وعدم انتظار مجيئهم للمسجد».
ويستكمل الرجل: «وحتى أنجح في ذلك التحقت بالمدارس الخاصة أُدرّس فيها صباحاً، وأتفرغ للمسجد في فترة المساء، واكتشفت من اتصالي بهم بُعدهم الكامل عن الدين»، لدرجة أنه كان ينظم لهم رحلات يوم الجمعة إلى المسجد للتعرف عليه!
وبعد مُدّة، رأى المحلاوي ضرورة التوسع في أمر الدعوة التي كانت مقتصرة على مدرسة واحدة، ففكّر في طريقة تشجيع أكبر عدد من الشباب للقدوم للمسجد، وقال: إن هذه الخطة كان عنوانها «نقل المدرسة للمسجد»، فاتفق مع مجموعة من زملائه المدرسين على إعطاء دروس خصوصية مجانية لجميع المراحل العمرية داخل المسجد، مشيرًا إلى أن «الدروس الخصوصية كانت في الستينيات تُشكّل عبئًا كبيرًا على الأسرة، لذلك كان المتوقع أن يكون الإقبال على دروس المسجد كبيرًا، وهو ما حدث فعلًا، ولأن الهدف كان إيمانياً، فقد اشترطت أن يكون الحضور قبل صلاة العصر بنصف ساعة والانتهاء بعد صلاة العشاء، لذلك كان الطالب يصلي بالمسجد ثلاثة فُروض».
وبالنسبة للبنات كان الشيخ يشترط حضورهن بالحجاب، وكن يستجبن للأمر لأن الدروس مجانية، وكثيرات منهن تعودن عليه.
طلاب الجامعات
ولم يقتصر الأمر على طلاب المدارس، بل تعداه إلى طلاب الجامعات، وخاصة بعد انتقال الشيخ إلى مسجد القائد إبراهيم الشهير بمحطة الرمل، فكلّم من يعرف من الأساتذة لمساعدة طلاب الجامعة في دروسهم، وبدورهم دعوا زملاءهم الذين بذلوا جهودًا كبيرة لخدمة طلاب الطب والهندسة والعلوم وغيرها من الكليات العملية، ومن هؤلاء نشأ ما يعرف بالجماعات الإسلامية، وكان من أبرز تلاميذه، صفوت حجازي، والشهيد بإذن الله عبدالعزيز الرنتيسي، ومحمد إسماعيل المقدم، وغيرهم ممن عُرفوا بقادة الجماعات الإسلامية.
وخطا الشيخ خطوة أخرى حين جعل المسجد في خدمة المجتمع، فأنشأ أول جمعية إسلامية، وكانت «جمعية سيدي جابر» أول حدث في مساجد الأوقاف لا يقف عند حدود الصلاة والعبادة، بل يتعدَّى لمتطلبات المسلم من دراسة وعلاج واجتماعيات.
«هايد بارك» الإسكندرية
وقد حوَّل المحلاوي مسجد القائد إبراهيم إلى حديقة «هايد بارك» الإسكندرية، فكانت تُعقد فيه المؤتمرات المهمة التي تنتقد اتفاقية «كامب ديفيد» وكل السياسات الخاطئة نحو العدو النازي اليهودي في فلسطين المحتلة أو غيره، مما أغضب المسؤولين، ولكنه لم يأبه لذلك، وراح يقوم بجولات في جميع المحافظات ويلقي خطبًا نارية تهاجم القيادة والسياسة مما عرّضه لمتاعب وملاحقات قضائية وإيقاف عن العمل، ولكن الجموع كانت تحيط به وتسانده حتى أوقف تمامًا عن الخطابة في عام 1996م.
جمعة الرحيل
في 4 فبراير 2011م، قام المحلاوي بأداء خطبة الجمعة في جامع القائد إبراهيم لأول مرة منذ إيقافه قبل 15 عاماً، وسميت «جمعة الرحيل» في أعقاب ثورة 25 يناير، وظل المحلاوي يحفز المتظاهرين بخطبه الحماسية حتى رحيل مبارك عن الحكم يوم الجمعة 11 فبراير 2011م.
تقارير غير صحيحة
ويعد المحلاوي من أشهر الدعاة الذين تناولهم الرئيس الأسبق أنور السادات، حيث تناوله في إحدى خطبه يوم 5 سبتمبر 1981م قبل اغتياله بنحو شهر، حين وصفه أنه ملقى في السجن مثل الكلب! ويبدو أن السادات كان ممتلئاً منه بسبب تقارير غير صحيحة أسندت إلى الشيخ أنه خاض في شؤون أسرة السادات وزوجه، ولكن الشيخ نفى ذلك تمامًا، والتسجيلات المطروحة لخطبه وأحاديثه تخلو من ذلك تمامًا، وإن كانت تركز على رفض سياساته بعامة، والصلح مع الأعداء في فلسطين بخاصة، والتفريط في وقف إسلامي تملكه الأمة الإسلامية وهو فلسطين.
أب لهم جميعًا
لم ينتمِ الشيخ يومًا لتنظيم أو حزب، بل كان حاضرًا دائمًا بين الجماهير ومُنتميًا لهمومها، ومع أن قيادات الجماعات الإسلامية كانوا معروفين لديه بحكم التلمذة في المسجد، فلم ينحز إلى جماعة معينة، وكان يرى نفسه أباً لهم جميعاً، وكان يسعى بقدر جهده ليغرس فيهم وسائل التربية الإسلامية، وإنضاج المجتمع المسلم ليكون على استعداد للتضحيات، ولذلك رفض العنف بشدة، ورأى أنه لا يفيد الدعوة ولا المجتمع، ولا يحقق نتائج إيجابية.
بيئة محبة
ولعل منهجه التربوي الواعي خلق من حولة بيئة محبة له تدافع عنه وتؤازره في المواقف الصعبة، وبسبب ذلك وجدت السلطة صعوبة كبيرة في القبض عليه نظرًا لشعبيته الجارفة بالإسكندرية التي تغيرت لتدافع عن الإسلام وعلمائه، وهذا ما بيّنه الباحث عبدالمنعم منيب بقوله: «كان كل أهل الإسكندرية يحبون الشيخ المحلاوي لمعارضته القوية والعلنية للسادات، وأيضًا لأنه كان يقوم بأعمال مجتمعية وخيرية واسعة بمساعدة الفقراء والأرامل واليتامى، سواء في مجال المعيشة أو العلاج، كما كان ينسق دروسًا خاصة لطلبة كليات الطب والعلوم والهندسة الفقراء بالمسجد، ويساعدهم في الحصول على الأدوات والكتب المطلوبة لدراساتهم ولمعاملهم، وكل ذلك عبر جمعه الأموال من المتصدقين وتخصيصها وتوزيعها في هذه الأغراض.
ومن هنا فقد خرج نحو مليون متظاهر بالإسكندرية صبيحة اعتقاله مما أجبر مباحث أمن الدولة على إطلاقه من الاعتقال لتهدئة الناس، وبعد أن هدأ الناس بعدة أيام أُعيد اعتقال الشيخ أحمد المحلاوي مرة أخرى».
كما يحكي عنه فايز النوبي، أحد طلابه المقربين قبل وفاته بسنوات: «ولا يزال فضيلته بفضل الله عز وجل رغم بلوغه الثالثة والتسعين من عمره بكامل صحته وعافيته وذاكرته، يلتقي أحبابه وتلاميذه بمنزله بالإسكندرية، بل ويُلقي لهم درسًا أسبوعيًا في التفسير، ويردّ من خلال الهاتف على أسئلة واستفسارات الجماهير، ويقضي ما استطاع من حوائج المسلمين»، كما لا تزال قناته على موقع «يوتيوب» حتى الآن تنشر له دروسه في التفسير بشكل منتظم.
سأقول: لا!
ويمكن فهم رؤيته بصفة عامة من خلال قوله في بعض إجاباته لـ«المصري اليوم»: «لو فُرض وعُرض عليّ اليوم بوصفي عالماً مسلماً حُكْم مصر سأقول لا، لماذا؟ لأن القاعدة ليست مهيأة، وبالتالي لن تقف معي، وإذا حدث وتوليت الحكم وجاءت أمريكا الدولة العظمى ومنعت عني سفينة غلال سيثور الشعب ضدي، وبالتالي أكون قد أعطيت صورة مشوهة عن الإسلام، وبدلًا من ذلك عليّ أن أعد نفسي حتى يأتي الوقت المناسب لتولي الحكم، وهذا ما كنت أنتظره من جماعة الجهاد، وعلى سبيل المثال؛ فقد التقيت أثناء وجودي بالسجن عقب مقتل السادات بأفراد ممن عرفوا بتنظيم الفنية العسكرية التابع لصالح سرية، وسألتهم: كم كان عددكم؟ قالوا: كنا 90 فرداً، قلت: وما الإمكانات التي كانت لديكم؟ قالوا: كان معنا حبال وسكاكين، كما ورد بالتحقيقات، واستغربت لبدائية الإمكانات، وأكدت لهم لو أن السادات علم بهذه المؤامرة وتصرف بعقلانية وأعطاكم حكم مصر بشكل سلمي بدلًا من موت نصفكم كما حدث ما وجدتم من بينكم من يصلح ليكون وزيرًا للخارجية أو الداخلية.
الشيخ الذهبي
أما الشيخ الذهبي فقد التقيته في الإسكندرية قبل مقتله بأقل من شهر وقضينا معاً وقتاً جميلاً، وكانت علاقتي به جيدة، لذلك كنت في غاية الحزن عند مقتله وخرجت على رأس مظاهرة للتنديد بذلك؛ لأنني أعرف من هو الشيخ الذهبي، كما أن قتل عالم مسلم على يد جماعة تنتمي شكلاً للإسلام فهذه مصيبة أن يقتل بعضنا بعضاً.
ويضيف الشيخ المحلاوي: «الجماعات الإسلامية كانت ولا تزال بخير، أما عمليات القتل فجميعها لم يكن يعجبني، وليس هذا هو الأسلوب المطلوب، بل إننا لم نستفد من ورائها حتى من قتلوا السادات، قل لي: ماذا فعلوا؟، فهؤلاء الأولاد كان لهم دور بنّاء في الصعيد فعلاً، وعندما اتجهوا للقتل لم يعد لهم دور؛ لأنهم غيّروا المسار، فقد كان أمامهم طريق طويل نهايته ليست القتل أبداً، لكنهم استعجلوا فقطفوا الثمار قبل أوانها، رغم أنهم كانوا الركيزة الأساسية في عملية تربية الشعب».
الحرية تقود إلى الله
ولعل أهم مقولة نقلت عن الشيخ أن «إطلاق الحريات كفيل بأن يقود الجماهير إلى الله».
رحم الله الشيخ المحلاوي، فقد كان مثالًا لعالم الدين الواعي الذي لا يخشى في الله لومة لائم، وخدم دينه وأمته بقدر ما استطاع، وهو كثير بلا ريب.