يمثل فن التشويق في القصة القصيرة أو الرواية العنصر الأهم في البناء القصصي لجذب القارئ لاستكمال قراءة القصة أو الاستمتاع بها ووصول رسالتها المقصودة، ويشحذ الكاتب عزيمته ويقدح ذهنه في سَوْق التصورات والأحداث والألفاظ من عنصر المفاجأة وتنويع أدواته الفنية لإثارة انتباه المتلقي وإثارة فضوله معتمداً على مجموعة من العناصر:
– في بناء الشخصية يستخدم مفردات توجه عاطفة القارئ نحو التعاطف مع الشخصية أو كراهيتها.
– استخدام الغموض في الأحداث بحيث يشد انتباه القارئ لاتجاه ثم يتدرج في الحدث ليخدع القارئ بنتيجة مغايرة.
– محاولة استخدام مفردات تضفي نوعاً من الحركة للحوار المقروء لتقديم صورة حية.
– إظهار المعلومات تدريجياً مع تحويل مسارها إذا اقتضى الأمر.
– التركيز على عنصر الزمن بإبهامه بشكل مطلق، أو الإشارة إليه بشكل ذكي ودقيق.
– ترك مساحة للقارئ للتخيل والتوقع من خلال إرسال بعض الرسائل الخفية.
النسق القصصي القرآني والإبداع المطلق
وبالرغم من وضوح الشروط التي تجعل العمل القصصي ناجحاً، فإن القارئ يجد تبايناً من قصة لأخرى، ومن كاتب لكاتب، هناك من يستطيع توظيف أدواته بشكل جيد فينجح في إخراج عمل ناجح يجذب القارئ لانتظار المزيد من كاتبه، وهناك من يملك كافة الأدوات الفنية إلا أنه لا يستطيع توظيفها بشكل جيد فيُخرج عملاً ضعيفاً مزدحماً فوضوياً.
وبالنظر إلى القصص القرآني الذي انتهجه المشرع عز وجل في محكم آياته لإرسال رسائله: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) (يوسف: 3)، وليس ككلام الله عز وجل في حسنه واكتماله، فكل نص بَشري يخضع للأخذ والرد والنقاش، أما النص القرآني فهو المقياس والمرجعية التي يعود إليها المبدعون في استياق قواعدهم اللغوية والجمالية، ومن أدوات القصة القرآنية تنوع طرق المفاجأة في عرض الحكاية، يقول د. عمر محمد عمر الحاذق، في كتابه «الجانب الفني في قصص القرآن الكريم»:
من خصائص القصة الفنية القرآنية تنوع طريق المفاجأة وذلك إما:
– بأن يكتم السر عن البطل والنظارة حتى يكشف لهم في آن واحد.
– وإما بأن يكتم السر عن أبطال القصة في حين يكشف للنظارة.
– وإما بأن يكشف بعض السر للنظارة وهو خاف عن البطل في موضع، وخاف عن النظارة وعن البطل في موضع آخر في القصة الواحدة.
– وإما ألا يكون هناك سر، بل يفاجأ البطل والنظارة بالموضوع دفعة واحدة من غير ترقب وانتظار.
ويضرب الكاتب مثالاً من أحد مشاهد قصة موسى عليه السلام قائلاً: فمن الأول وهو ما جاء فيه السر عن البطل والنظارة حتى يكشف لهم معاً قصة موسى عليه السلام، فبعد أن غادر مدين مع أهله، وكانت ليلة شاتية مطيرة، فقدح موسى زنده فأصلد، هناك حانت منه التفاتة إلى الأفق فأبصر ناراً تتراءى، فأسرع إليها قائلاً لأهله: (إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى) (طه: 10)، ويفزع موسى إلى النار، فيجدها تمتد نوراً في شجرة عناب، وهنا يعتريه الذهول، نوراً يمتد ويرتفع إلى العنان بدون أن يكون له دخان(1)، وهنا يبدأ السر في التجلي لموسى عليه السلام وللنظارة حين نسمع مع موسى تلك المناداة من رب العالمين: (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) (طه: 12)، فالسر الذي استكان في النار قد خفي علينا كما خفي على بطل القصة كليم الله، حيث تشرف بمخاطبة البارئ عز وجل، وحيث تشرف بالنبوة والرسالة.
وإما أن يكتم السر عن أبطال القصة في حين يكشف للنظارة؛ فمثاله قصة الخليل إبراهيم عليه السلام في تحطيمه للأصنام، فإنها معلومة للسامعين، بينما الأبطال الحقيقيون يجهلونها، قال تعالى على لسان خليله: (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) (الأنبياء: 57)، قد علمنا الفاعل بينما قوم إبراهيم يجهلونه، وقصة أصحاب الجنة؛ (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ {17} وَلَا يَسْتَثْنُونَ {18} فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ {19} فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) (القلم)، وقد ظللنا نحن النظارة نسخر منهم وهم يتنادون ويتخافتون، والجنة خاوية كالصريم، حتى انكشف لهم السر أخيراً بعد أن شبعنا تهكماً وسخرية؛ (قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ {26} بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (القلم)؛ وذلك جزاء من يحرم المساكين.
وأما ما كشف فيه بعض السر للنظارة؛ فمثاله عرش بلقيس الذي جيء به في غمضة عين، وعرفنا نحن أنه بين يدي سليمان، في حين أن بلقيس ظلت تجهل ما نعلم، فلما جاءت قيل: أهكذا عرشك؟ قال: كأنه هو، فهذه مفاجأة عرفنا نحن سرها سلفاً، ولكن المفاجأة الصرح الممرد من قوارير، ظلت خافية علينا وعليها، حتى فوجئنا بسرها معاً، حينما: (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ) (النمل: 44)(2).
وهكذا نرى القصة القرآنية كانت مكتملة التشويق قياساً على القواعد الأدبية التي وضعها النقاد، أو كما قلنا سلفاً: إن النص القصصي القرآني هو النسق والمرجعية الفنية للمبدعين ومن يريدون التعلم، وقد رأى النقاد الحداثيون أن من مظاهر اكتمال عنصر التشويق ألا تكون العقدة مفتعلة، وأن يكون هناك تناسق وانسيابية بين المقدمة مع النتيجة، وأن تكون سهلة الفهم والمغزى، فالقصة القرآنية مهما غمضت، فسرعان ما يحلها النص ويطرح النتائج بوضوح لتظهر العبرة والدروس المستفادة بشكل مباشر.
طرق عرض القصة من عناصر التشويق
اعتمد القصص القرآني 4 طرق لعرض القصة يقول فيها سيد قطب رحمه الله:
1- مرة يذكر ملخصاً للقصة يسبقها، ثم يعرض التفصيلات بعد ذلك من بدئها إلى نهايتها، وذلك كقصة أهل الكهف فيقول تعالى: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً {9} إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً {10} فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً {11} ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً) (الكهف)، ذلك ملخص القصة، ثم تتبعه تفصيلات تشاورهم قبل دخولهم الكهف، وحالتهم بعد دخوله ونومهم ويقظتهم وإرسالهم واحداً منهم ليشتري لهم طعاماً وكشفه في المدينة وعودته وموتهم وبناء المعبد عليهم.
2- ومرة يذكر عاقبة القصة ومغزاها، ثم تبدأ القصة بعد ذلك من أولها وتسير بتفاصيل خطواتها؛ وذلك كقصة موسى في سورة «القصص»: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ {2} نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {3} إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ {4} وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ {5} وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص)، ثم يمضي في تفصيلات قصة موسى؛ مولده ونشأته ورضاعته وكبره وقتله المصري وخروجه.
3- ومرة تذكر القصة مباشرة بلا مقدمة ولا تلخيص، ويكون في مفاجآتها الخاصة ما يغني، مثل قصة مريم عند مولد عيسى، ومفاجآتها معروفة، وكذلك قصة سليمان مع النمل والهدهد وبلقيس.
4- ومرة يحيل القصة تمثيلية، فيذكر فقط من الألفاظ ما ينبه إلى ابتداء العرض، ثم يدع القصة تتحدث عن نفسها بواسطة أبطالها، وذلك كالمشهد الذي عرضناه من قصة إبراهيم، وإسماعيل، في فصل التصوير: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ) (البقرة: 127)، هذه إشارة البدء، أما ما يلي ذلك فمتروك لإبراهيم، وإسماعيل؛ (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة: 127)، إلى نهاية المشهد الطويل، ولهذا نظائره في كثير من قصص القرآن(3).
إن قراءة القرآن الكريم يمكن أن تتحول لأكثر من قراءة وأثر من حقل معرفي في الآية الواحدة، بل في الكلمة الواحدة، أوجه كثيرة يمكن أن يتدبر فيها القارئ للقرآن تنقله لحياة أخرى غير تلك القراءات العابرة بدون وعي وبدون تدبر وبدون إدراك، صدق الله العظيم، إنه أعظم وأحسن القصص.
_________________
(1) الكامل في التاريخ، ابن الأثير المجلد الأول.
(2) د. عمر محمد عمر رئيس قسم البلاغة والأدب في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(3) التصوير الفني في القرآن الكريم، سيد قطب، ص 183.