تقوم المجتمعات الإسلامية على مبادئ عديدة تعود جميعها لشريعة رب العالمين؛ وذلك لضمان سعادة واستقرار تلك المجتمعات، وتُبنى العلاقة بين المسلمين على أساس الأخوة والمودة وسلامة الصدر وحب الخير للجميع، والبعد عن كل ما يمكن أن يوغر الصدور ويثير مشاعر البغضاء والتشاحن بين المسلمين، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث» (رواه مسلم).
ومعنى سلامة الصدر لغة: السَّلامةُ مَصدَرُ: سَلِم يَسلَمُ سلامةً؛ يقالُ: سَلِم المسافِرُ، أي: خَلَص ونجا من الآفاتِ، والسَّلامُ والسَّلامةُ: البراءةُ(1).
وأما سلامة الصدر اصطلاحاً: قال ابنُ الشَّوكانيِّ: وأمَّا سلامةُ الصَّدرِ فالمرادُ به: عَدَمُ الحِقدِ والغِلِّ والبَغضاءِ(2)، وقال ابنُ القَيِّمِ: والقَلبُ السَّليمُ هو الذي سَلِم من الشِّركِ والغِلِّ، والحِقدِ والحَسَدِ، والشُّحِّ والكِبرِ، وحُبِّ الدُّنيا والرِّياسةِ(3).
أولاً: سلامة الصدر من أسباب دخول الجنة:
عن أنس بن مالك قال: كنا جلوسًا مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة»، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضًا فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى،
فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبدالله بن عمرو بن العاص فقال: إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت قال: نعم،
قال أنس: وكان عبدالله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئًا غير أنه إذا تعار وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر،
قال عبدالله غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا، فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبدالله، إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرات: «يطلع عليك الآن رجل من أهل الجنة»، فطلعت أنت الثلاث مرار فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت، قال: فلما وليت دعاني، فقال: ما هو إلا رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًا ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق، (رواه الإمام أحمد).
ثانياً: سلامة الصدور صفة لمن يدخلون الجنة:
لا يجوز أن يدخل الجنة بكل ما فيها من نعيم مقيم من كان في قلبه ذرة من حقد أو حسد، لذلك قال الله عز وجل عن أهل الجنة: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) (الحجر: 47)، وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين على آثارهم كأحسن كوكب دري في السماء إضاءة، قلوبهم على قلب رجل واحد، لا تباغضَ بينهم ولا تحاسد، لكل امرئ زوجتان من الحور العين، يُرَى مُخُّ سوقهن من وراء العظم واللحم» (رواه البخاري).
ثالثاً: سلامة الصدر اقتداء بالأنبياء وسيراً على نهجهم:
وصف الله عز وجل نبيه إبراهيم قائلاً: (وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ {83} إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الصافات)، وعن محمد صلى الله عليه وسلم قال سبحانه: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ {1} وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ {2} الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ {3} وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) (الشرح).
وعن عبدالله بن مسعود قال: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًّا من الأنبياء ضربه قومه فأدمَوْه، وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: «اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون» (رواه البخاري، ومسلم).
رابعاً: سلامة الصدر صفة مشتركة لكل الصالحين:
يصف الله عز وجل الأنصار في المدينة بقوله عز وجل مادحاً إياهم: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9).
ولقد كان الصحابة يقيمون الناس بمقدار ما في قلوبهم من حب لإخوانهم وسلامة صدر تجاههم، فيقول إياس بن معاوية بن قرة عن أبيه، في وصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: كان أفضلهم عندهم -يعني: الماضين- أسلمهم صدرًا، وأقلهم غِيبة، ولذلك فقد كان خير القرون هو قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك استطاعوا وضع الأساس الأقوى لأعظم حضارة عرفتها البشرية إلى يوم القيامة.
خامساً: سبل الوصول إلى سلامة الصدر:
وككل عبادة بدنية أو قلبية حتى يتحلى بها المسلم يجب أن يقدم لها أسباباً كي يستطيع التحلي بها إتيانها ما استطاع، ومن الأسباب المعينة على التحلي بخلق سلامة الصدر:
1- طاعة الله عز وجل: فالله عز وجل هو مقلب القلوب ومثبتها وبيده الأمر كله، وتنفيذ أوامره فيقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُون) (الأنفال: 24)، وقال عز وجل: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ) (الأنعام: 125).
2- الدعاء: والدعاء يصنع المعجزات ويفتح السبل المغلقة ويذلل الصعاب التي يقف المسلم أمامها عاجزاً يقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر: 10).
3- تعهد النفس بالقرآن تلاوة وحفظاً وسلوكاً: والقرآن شفاء لأمراض القلوب فيقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (يونس: 57).
4- إفشاء السلام: فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أولا أدلُّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» (رواه مسلم).
5- الإكثار من الصدقات تطهر القلب: فيقول تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) (التوبة: 103).
6- السير بين المسلمين بالإصلاح: قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات: 10).
7- القناعة: فقال الله تبارك وتعالى: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طه: 131).
_______________________
(1) مقاييس اللغة لابن فارس، ولسان العرب لابن منظور، والمصباح المنير للفيومي.
(2) في السلوك الإسلامي القويم، ص 121.
(3) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم، ص 121.