إن من الأزمات التي نعيشها في عالمنا العربي من بعد الاستقلال في النصف الثاني من القرن العشرين أن الهويات لم تستقر على شكل نهائي.
وذلك لما قام به المشروع الاستعماري الصليبي على اختلاف دوله من محاولات طمس الهوية للمجتمعات والدول العربية.
فلم تختلف فرنسا عن إيطاليا عن بريطانيا.. إلخ، في محاولة طمس الهوية العربية الإسلامية للبلدان التي وقعت تحت سيطرتهم، وإن كانت درجة عملية الطمس تتفاوت من دولة صليبية إلى أخرى.
ففرنسا كانت أشدهم وطأة على الدول التي وقعت في قبضتها من غيرها من الدول الصليبية، حتى وإن رفعت شعارات العلمانية؛ فرغم العلمانية فإن الثقافة تبقى مسيحية تحمل بُغضًا تاريخيًّا للإسلام والمسلمين ونبي الإسلام وقرآنه.
وعندما انجلت هذه الدول الصليبية عن دولنا حاولت ترسيخ عملية طمس الهوية واستمرارها عبر عملائها الثقافيين والسياسيين والعسكريين الذين زرعتهم قبل خروجها، أو بعد خروجها.
وهؤلاء العملاء قاموا بذلك خير قيام؛ فزرعوا العلمانية من خلال التعليم والإعلام والثقافة، وحاربوا الإسلام واتهموه بالرجعية والتخلف، وهاجموا اللغة العربية وزاحموها باللغات الأخرى مثل الإنجليزية والفرنسية، بدعوى أن اللغة العربية ليست لغة العلوم والتقدم.
وعندما تفشل الطرق الناعمة في طمس الهوية يستخدمون الطرق الخشنة، من خلال التخلص من الوطنيين، أو شيطنتهم، أو الانقلاب عليهم.
وهم قد يكونون قد نجحوا في طمس الهوية على مستوى الأنظمة الحاكمة، أكثر من نجاحهم في طمس هوية الشعوب، حيث كانت الشعوب أكثر مقاومة من أنظمتها في مواجهة طمس الهوية.
وإذا حاولنا أن ننظر إلى مسألة الهوية في الجزائر، مثلاً، فهي مسألة ذات أهمية قصوى؛ وذلك لما قامت به فرنسا من حرب حامية الوطيس ضد الإسلام والعروبة لجعل الجزائر مجرد ولاية تابعة لها لا تحمل أي سمات مغايرة لفرنسا لا في الدين أو اللغة أو التفكير.
لذا لم يكن تحرير الأرض والخروج من ربقة الاستعمار بمعزل عن مسألة الهوية؛ فكانت تلك المسألة تؤرق الثوار؛ فكانت محاربتهم لفرنسا على أكثر من مستوى؛ فهناك المستوى العسكري، والمستوى السياسي، والمستوى الثقافي.. إلخ.
ففي بيان الأول من نوفمبر 1954م، طالب ثوار جبهة التحرير من فرنسا «الاعتراف بالجنسية الجزائرية بطريقة علنية ورسمية، ملغية بذلك كل الأقاويل والقرارات والقوانين التي تجعل من الجزائر أرضًا فرنسية رغم التاريخ والجغرافيا واللغة والدين والعادات للشعب الجزائري».
ولم يغب عن ثوار التحرير بُعد الأمة الواحدة؛ اعتبروا أنهم جزء لا يتجزأ من الأمتين الإسلامية والعربية، ويظهر ذلك مما جاء في قولهم: «أما في الأوضاع الخارجية فإن الانفراج الدولي مناسب لتسوية بعض المشكلات الثانوية التي من بينها قضيتنا التي تجد سندها الدبلوماسي، وخاصة من طرف إخواننا العرب والمسلمين».
ووضح الانتماء إلى الأمة العربية والإسلامية عند حديثهم عن الأهداف الخارجية لحركتهم حركة التحرير فقالوا: الأهداف الخارجية:
1- تدويل القضية الجزائرية.
2- تحقيق وحدة شمال أفريقيا في داخل إطارها الطبيعي العربي والإسلامي.
ولم تكن حركتهم علمانية تحارب الدين، بل كان برنامجهم السياسي يسعى ألا تخرج دولتهم التي ينشدونها عن الإسلام ومبادئه، فقالوا: لكي نبين بوضوح هدفنا فإننا نسطر فيما يلي الخطوط العريضة لبرنامجنا السياسي:
الهدف: الاستقلال الوطني، بواسطة:
1- إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية.
2- احترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني.
ومما سبق يظهر أن الثوار لم يروا نفسهم يومًا جزءًا من فرنسا، فلا يربطهم دين واحد، أو لغة واحدة، أو تاريخ مشترك، أو عادات وتقاليد متشابهة، أو أرض متصلة يعيشون عليها عيشًا مشتركًا بعيدًا عن التسلط والاستغلال.
وهذه كلها عناصر من عناصر الهوية المشكلة لأي أمة من الأمم.
وبذلك يمكن القول: إن ثوابت الهوية في الجزائر قد تتمثل في:
1- الدين الإسلامي بمرجعية فقهية مالكية، وأصول اعتقادية أشعرية، مع احترام كامل للإباضية الموجودين والمتركزين في غرداية.
2- اللغة العربية، وهي اللغة الحضارية التي بها يتواصل جميع الجزائريين فيما بينهم على اختلاف أعراقهم وألوانهم، وإن كان مستوى اللهجة به كثير من العجمة، وخصوصًا من اللغة الفرنسية التي تم فرضها على الشعب فرضًا، إلى جانب تعثر عملية التعريب، وخصوصًا في بعض المصالح الإدارية، على رغم وجود قانون للتعريب.
3- قبول التعدد العرقي بين العرب والبربر (الأمازيغ)، وعدم التفرقة بينهم، والاعتراف باللغة الأمازيغية لغة رسمية ثانية في البلد، وذلك لإغلاق الباب أمام محاولات شق صف الأمة بزرع الفتنة بين البربر والعرب، وقد كان الأمازيغ يستخدمون الحرف العربي في كتابة العلوم الشرعية واللغوية.
4- الوطن، وهي تلك الأرض التي أريقت في سبيل تحريرها دماء ملايين المسلمين، التي كان على ترابها التاريخ المشترك لتلك الأمة على مدى قرون ضاربة بأطنابها في عمق التاريخ.
والملاحظ أن الثوابت والأبعاد الوطنية للهوية الجزائرية التي ظهرت في بيان الفاتح من نوفمبر لم تخرج قيد أنملة عما صاغه الشيخ عبدالحميد بن باديس في شعاره: «الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا».
ثم إن فكرة الثوابت الوطنية تعززت في التعديل الدستوري الأخير في عام 2016م، وبالتحديد في ديباجة الدستور، التي تعد جزءًا منه ومدخلاً له، وتتضمن الديباجة عددًا من المبادئ، أو الأسس، أو المرتكزات المترسخة والمستقرة في ضمائر المجتمع، جاءت لتعزيز الوحدة الوطنية، وقطع الطريق أمام الذين يعبثون بوحدة الوطن ومكونات مجتمعه.
وجاء التعديل الدستوري الأخير ليرسم الهوية الوطنية في الديباجة القائمة على الثوابت الثلاثة: الإسلام، العروبة، والأمازيغية، وتم لأول مرة دسترة الآليات التي تعتمد عليها الدولة لترقية مقومات الهوية الوطنية، على غرار المجلس الأعلى للغة العربية، المجلس الإسلامي الأعلى، وأكاديمية اللغة الأمازيغية، مع إلحاقها بمؤسسة رئاسة الجمهورية(1).
فهذه ثوابت يتفق عليها الجميع، إلا بعض الذين أداروا ظهورهم لأمتهم ودينهم ولسانهم، وهم فئة قليلة لا تمثل الأمة الجزائرية، ولا شك أنهم سيُخذلون، وإن بلغ الأمر بالجزائري أن يريق دمه من أجل هويته فسيفعل ذلك وهو قرير العين.
_____________________________
(1) الثوابت الوطنية.. قراءة دستورية، بقلم د. جوادي إلياس، باختصار.