إنَّ عقيدة التوحيد والتقيُّدَ بالتزاماتها واحترام شروطها العملية المنافية لكل صور الإرجاء والتعطيل، إنَّما هي في منطق التجريد فطرةٌ لا تَكَلُّفَ فيها؛ ولذلك منْ يتخذها خياراً إستراتيجياً للحياة، يجدها واحة فسيحة بلا حدود، تنطلق فيها طاقات الإنسان وقدراته ومواهبه وملكاته وإمكاناته الإبداعية بلا عوائق، وتتوظف في مساراتها إمكاناته المُنتِجة بلا قيود.
وعلى أضواء حيثيات تلك الهوية الاستخلافية، تبدو أهمية تتبُّعِ مؤشِّرات العبرة النبوية الشريفة وخبرتها المستقاة من روح الوحي في تغيير المفاهيم، وتأطير القيم، وتنوير الأفكار الخليقة بتأسيس مجتمع وشعب، وبناء مؤسَّساتِ دولة، وتشييد مدنية، وهيكلة حضارةِ خيرِ أُمَّةٍ أُخرجت للناس؛ ذلك، ولم يكن حديث القرآن عن فنون إدارة المشاريع النهضوية الكبرى، ولا عن قيم التعددية والتنوع في تأسيس المجتمعات ولا عن تَطَرُّقِ الوحي إلى حديثه المستفيض عن قيم الحريات وحقوق الإنسان، ومناهضة مشاريع الاستبداد المتسلِّط في الأرض بغير حَقٍّ وجدارة، وعنايته بفريضة الشورى وتأكيده على وجوب المشاركة في صياغة العلاقة بين المجتمع والدولة والسلطة تحت مظلة الأمة الواحدة والجامعة المتوحدة.. لم يكن كل ذلك وغيره حديثاً من فراغ!
مؤسسات المجتمع في غالبية تاريخنا كانت أقوى من السلطة بل هي الدولة وصاحبة القوة التأثير
وقد جاءت الترتيبات النبوية الأولية، بعد توطين الهجرة الإسلامية في يثرب، وما تبعها من إجراءات تغيير إسلامي شاملٍ؛ ابتداءً بتصحيح المفاهيم وإصلاح القناعات، ومروراً بتعديل المسالك الاجتماعية المعيقة للاستقرار والتحضر، تلك المسالك التي كانت تدل عليها اللافتة القديمة «يثرب» وما علق بها من حمولات دلالية «تثريب اجتماعي، ومسالك انتهازية، ومنافسات عصبية، ومنازعات قَبَلِيّة لا تنتهي»؛ تلك المظاهر قد رآها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم منافيةٍ روحَ الحضارة الجديدة القائمة على الوحدة المتعاونة، فبادر صلى الله عليها وسلم إلى وضع العنوان الجديد ورفع اللافتة الجديدة «المدينة»، وقَنَّنَ ما ارتبط بدلالاتها من دستور الأمة، وهوية المواطنة الجامعة التي يتساوى بها مواطنو الدولة ورعاياها من مختلف التعدُّديات: الجهوية «المهاجرين والأنصار»، والعرقية «بلال الحبشي، صهيب الرومي، سلمان الفارسي»، الدينية «المسلمون اليهود بكافة قبائلهم، والنصارى والأحناف والوثنيون» والتعددية الأيديولوجية «المنافقون».
وفي سياق ذلك، تأسست الأوقاف كمؤسسة أهلية مُغذية النشاط الحضاري بكل مقومات الاستمرارية والنمو والازدهار، كل ذلك وغيره من ترتيبات، كان يجري وأصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم من حوله، يرقبون تصرفاته ويتأملون أفعاله بكل اهتمام، وكانوا يتابعونه عن كثبٍ فيتشربون عصارة تجربته وخلاصة خبرته؛ فتراهم يحاكونه في مسالك التحضُّر والتمدُّن؛ تارة على سبيل التأسي والاقتداء، والتعبُّد بمتابعته على طريقته الجارية في حراسة الدين، وفي سياسة الدنيا، وتارة أخرى يتمثلون سلوكه على سبيل التبرك والتقليد وجريان العرف والسليقة على اتِّباعِ المعروفِ، وسلوك سبيل المؤمنين.
ولقد كانت تلك الإجراءات، إذْ ذاك، محدودة ومتواضعة؛ بِحُكم حداثة العهد الإسلامي بالتأسيس والتهيئة والتحضير لقيامة الإسلام في دورته الخاتمة بنبوة النَّبِي محمد صلى الله عليه وسلم ممهِّداً لولادة الأمة في صيغها الاستخلافية؛ مجتمعاً ودولة ومدنية وحضارة.
ولقد كانت العصور التالية عصر النبوة من شواهد الإثبات على أنَّ المسيرة للأمة لم تتوقف برغم وجود مشكلات سياسية مبكرة من تاريخ المسلمين؛ وذلك يدلُّ على أنَّ الحضارة الإسلامية كانت حضارة مؤسسات، قد خَطَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خطوطها العريضة لكنها كانت منذ نشأتها حضارة مؤسسات أهلية ومبادرات شعبية تحملت مسؤولية النهوض الحضاري المستدام عبر العصور، وكانت الدولة تقوم بدور حراسة النشاط الحضاري وحماية مؤسسات الأمة دون أيِّ تأثير في مجرياتها، فقد كانت مؤسسات المجتمع، خلال غالبية عصور تاريخنا الإسلامي، أقوى من السلطة، بل كانت هي الدولة بالمفهوم المجازي وصاحبة القوة الحقيقة والتأثير!
أداء المؤسسات الإسلامية المعاصرة تغلب عليه نزعة الذاتية وغلو العصبية وتطرُّف الانتماء
وبوسعي القول: إنَّ تلك الترتيبات الحضارية الإسلامية المبكرة، إنَّما جاءت في سياق نزعة الإيمان التي هيمنت على الشعور الإسلامي الراغب في التماهي مع تلك الصورة المثلى لمملكة الرب جل جلاله في الأرض، تلك الصورة التي تأسست على قواعد الحق والعدل والإحسان.
ونريد الانطلاق من مسألة التعددية والتنوع على نحو ما تضمنته الفكرة السابقة، ونقرر أنَّ منطق الربوبية في الذِّكرِ الحكيم يأبى أي صورة من صور الإقصاء والتهميش، أو الإهمال والتنحية والإبعاد عن دائرة المشاركة في حركة التحضر والتمدُّن الإسلامي، بل إنَّ ما ورثناه من تقاليد حضارية عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، في عصر التأسيس الحضاري الإسلامي، ليؤكِّد استِفادة الأمة المسلمة من طاقات أبنائها وخبرات مواطنيها، المسلمين وغير المسلمين.
إنَّ التفاوت في الطاقات والقدرات، والتباين في المواهب والإبداعات، والاختلاف في الآراء ووجهات النظر المتعلقة بشؤون الحياة، وتسيير أمورها وترتيب أحوالها، كان إحدى سمات الحياة الإسلامية سيادة عبر العصور، ولن نذهب بعيداً إذا نظرنا إلى تلك المعطيات باعتبارها المعادل الموضوعي لفهم مبدأ «المؤسَّسِيَّةِ» في مكونات الهوية الحضارية الإسلامية، سواءً في التزاماتها الفردية، أم في إطارها العملي الجماعي، أم في تجلياتها الاستخلافية، أم في فهم الاختلافات الدينية والمذهبية والقومية والعرقية والعشائرية والقبلية.
ومن المُهِمُّ هنا التعريج على أبرز المشكلات التي تُعيق المؤسسية في عالَمَي العروبة والإسلام؛ إذْ إنَّ كثيراً من الشعارات الدينية والمذهبية والحزبية لا تحقق المقاصد الحضارية لرسالة الإسلام؛ وذلك بسبب غياب المؤسسة الإسلامية القائمة على مبادئ التخصص وتقسيم العمل، وتوزيع المسؤوليات توزيعاً عادلاً؛ ولذلك، فإنَّ عمل المؤسسات التي ترفع من «الإسلامية» شعاراً لمسالكها؛ إنَّما هو في مُجمَلِهِ عملٌ أحوج ما يكون إلى النقد النزيه والمراجعة القويمة.
كثير من الشعارات المذهبية لا تحقق مقاصد الإسلام بسبب غياب المؤسسة الإسلامية المتخصصة
وغيرُ خافٍ أنَّ أداء المؤسسات الإسلامية المعاصرة، إنَّما تغلب عليه نزعة الذاتية وغلو العصبية وتطرُّف الانتماء، هذا التطرف يجعل من خطابها مجرد «دعاية» بعيدة عن منطق الدعوة إلى قيم الدين الحنيف، بل مجرد نشاط حزبي أو تنظيمي أو طائفي ذي رؤى وسياسات ومناهج ومقررات وأدبيات فئوية تجزيئية بعيدة عن مفهوم الأمة الجامع، بل تعارضه حيناً وتناقضه أحياناً!
ولذلك نجد أنَّ المؤسسية المعبرة بحق عن هوية الأمة وتطلعاتها إلى إعادة إنتاج الفعل الحضاري الإسلامي من جديدٍ، لا تتحقق على وجه المراد الإلهي إلا بالتحام الوازع الديني المتجرد مع الواقع الدنيوي المتعدد، ومن ثم، فإنه من المستساغ أن يحدد الأفراد والتيارات والمذاهب هويتهم بالإسلام الذي يجمع بينهم بروابط الأخوة الإسلامية العالمية، بدل تحديدها على أسس تجعل منهم مجرد فئة أو طائفة أو جماعة من الجماعات.
والحقيقةُ أنه ترسيم الهوية بالإسلام لا يتعارض مطلقاً مع إحساس كل جماعة بذاتيتها، فالهوية الإسلامية الجامعة لا تنفي عناصر الاختلاف الخاصة بكل فئة، ولكنها تجعلها غير مهمة نسبياً، مقارنة بما يجمعها مع غيرها من الطوائف من قواسم مشتركة عبر فهم الإسلام فهماً سليماً، فتلك الفروق لا مجال لنكرانها، ولكنها توضع في حجمها الصحيح»(1)، وهكذا يمكن أن تتحدد ملامح هويتنا الحضارية، وتتجدد بنودها على أضواء الخبرة الحضارية المستقاة من تجربة النبوة الإسلامية.
_____________________
(1) إسماعيل راجي الفاروقي، التوحيد مضامينه على الفكر والحياة، ترجمة: السيد عمر، مدارات للأبحاث والنشر، 1435هـ/ 2014م، ص183، بتصرف يسير.