الاعتدال فضيلة أخلاقية، وأحد الكوابح القوية ضد الاستبداد، فالاستبداد قوة متجانسة متماسكة مرتبطة بمركز واحد فرداً كان أو جزباً أو مؤسسة، والاستبداد حالة متمددة في المجتمع، ففي النظام الاستبدادي كل شيء استبدادي، فالاعتدال دليل أن القوة مجزأة متوازنة، وهو ما يخلق حالة من التقييد المتبادل لتلك القوى في مواجهة بعضها بعضاً، إذ لا يقاوم القوة إلا القوة، وهذا ترياق ضد الاستبداد، ودفع بممارسة السلطة باتجاه الاعتدال.
كان إدموند بيرك يدرك(1) ينتقد من ينظرون إلى الاعتدال على أنه فضيلة الجبناء والتسوية باعتبارها حكمة الخونة، ويرى أن الاعتدال هو فضيلة العقول النبيلة والمتفوقة.
منذ سنوات والكتاب والدراسات تتناول أهمية وضرورة عودة الاعتدال ليحتل مكانته في أروقة الحكم وممارسة السلطة، كتب المفكر السياسي الأمريكي أوريليان كرايويتو مقالاً عام 2019م بعنوان «راديكالية الاعتدال»، انتقد فيه بعض الساسة والمثقفين الأمريكيين الذين ينظرون إلى الاعتدال كفضيلة ضعيفة وغير فعالة ولا تستحق المراجعة.
وسبقه المفكر الأمريكي جيري تايلور في العام 2018م عندما كتب مقالاً بعنوان «البديل للأيديولوجية»، طالب بعودة الاعتدال كممارسة في السياسة الأمريكية، رافضاً السخرية التي يتعرض لها الساسة المعتدلون، وقال: فإن التقدير المتدني الذي نكنه للاعتدال في الحياة العامة يغذي التعصب الأيديولوجي والحزبي.
ومن ثم، فالأخلاق تعود إلى حيز السياسة في العالم الغربي، وتجري مراجعة لفترات تاريخية للكشف عن المسار الأخلاقي في أحداثها السياسية، وهو اتجاه يتنافى مع المقولات الساعية لنزع كل ما هو أخلاقي وقيمي عن السياسة، بزعم أن السياسة تحكمها المصلحة، وأنها مجال لا معايير تحكمه، أو توجهه.
الفكر السياسي الغربي الحديث، اعتبر الإنسان هو المرجعية، بعدما فصل الدين عن السياسة، وعندما تنفصل القيمة المعيارية والثابتة عن السياسية، تسود فكرة النسبية كل شيء، ويسود منطق القوة، القائل بأولوية القوة على الحق، وتصبح السياسة بلا ضابط قيمي أو معياري.
في الاعتدال السياسي
تصدر مفهوم الاعتدال مائدة النقاش الفلسفي والسياسي، وأعيدت بناء المناقشات والأحداث السابقة لإدخال المفهوم حيز السياسة، ودراسة أهميته في تحقيق الاستقرار، ومن تلك الدراسات كتاب «في الاعتدال: الدفاع عن فضيلة قديمة في عالم حديث»(2) للبروفيسور هاري كلور، الذي اعتبر الاعتدال من الفضائل السياسية التي تعرضت لتجاوزات، رغم أن المفهوم يتمتع بقوة جوهرية في التأثير والمشاركة، لذا سعى هاري للتأسيس للمفهوم في حقل العلوم السياسية، بعدما أسيء فهمه سياسياً، ورأى في الاعتدال ارتباطاً بازدهار الإنسان، فهو كما يقول: «ليس كرسياً بذراعين للعواطف»، ولكنه مفهوم يساهم في بناء الحياة السياسية، كما أنه ليس مفهوما تلفيقياً.
لكن الأهم الذي يذكره الكتاب أن الاعتدال في المجال السياسي متوافق مع المبدأ وليس نوعاً من التلفيق، وهو ما يستوجب النظر لتاريخ الاعتدال وتأثيراته في عالم السياسة، فهو فضيلة قديمة وقفت بعناد ضد التطرف بكافة أشكاله، فالتطرف قد يكون أكثر ضجيجاً، لكن سقوطه يكون دوماً سريعاً، أما ما يدوم فهو الاعتدال، فالاعتدال هو الشيء الراسخ في الحياة السياسية.
أما أوريليان كريوتو، أستاذ العلوم السياسية بجامعة إنديانا، فأصدر كتاباً بعنوان «وجوه الاعتدال: فن التوازن في عصر التطرف»(3)، أعاد فيه التأكيد على مفهوم الاعتدال الذي يكتنفه الغموض وغالبًا ما يُساء فهمه، مؤكداً أنه مفهوم قديم، إذ تعود فكرة الاعتدال إلى اليونانيين، فقد اعتبره أرسطو فضيلة، أما أفلاطون فرآه يحقق الانسجام بين الروح والعقل، كما أنه موجود في الكونفوشيوسية والبوذية.
لكن ما يعنينا في الجانب السياسي هو دور الاعتدال في تخفض تأثير وضغط الأيديولوجيا عند التفكير، إذ لا بد أن تكون الحقائق حاضرة، فهي التي تُوجد التوازن، وتساهم في خلق الاعتدال، الذي يشبه السير على حبل مشدود على جبل، قد يفرض على السائر أحياناً بعض الميل إلى اليمين أو اليسار حسب مقتضيات الظروف، أي أن الاعتدال السياسي يستلزم المرونة، فهو لا يفرض أن يبقى السياسي في مكان واحد، ولكن لا بد أن يغير موقعه حسب الظروف، ويبدو أن هذا كان السبب وراء الاتهامات لمفهوم الاعتدال بالانتهازية، ومن ثم فالاعتدال مفهوم معقد وليس بسيطاً، والبعض اعتبره هو «الأرخبيل المفقود» في عالم السياسة، وطالبوا بعودته إلى قلب التاريخ السياسي الغربي، والبحث عن نماذجه التاريخية.
أبلغ دروس الحكمة
الاعتدال هو فضيلة إنسانية لا بد أن تنساب في الحقل السياسي، هكذا يقول الفيلسوف الفرنسي الشهير مونتسيكيو: البشر يتكيفون بشكل أفضل مع الوسط وليس المتطرفين، فالتطرف قصير العمر، وهنا يثور التساؤل عن تأثير الاعتدال في السياسات العامة والحياة السياسية، والمبادئ التي يقوم عليها الاعتدال السياسي.
الحقيقة أن إحدى المشكلات التي تواجه الاعتدال في الحياة السياسية هي أن الجماهير تساوي بين الاعتدال وقيم سلبية كالتردد والانتهازية والضعف والتنازل والجبن، وهناك آخرون يدعون أن الاعتدال السياسي مفهوم غير متماسك، بل لا يجد له إلا القليل من الأنصار في الحياة السياسية، على عكس الصلابة والتشدد القادرين على جمع الأصوات والجماهير، إذ يبدو الاعتدال مسلكاً سياسياً فجاً؛ بل وقبيحاً وغير مرغوب فيه جماهيرياً، وغير قادر على الحشد والتعبئة الجماهيرية.
لكن التاريخ يشير إلى غير ذلك، فالاعتدال هو أبلغ دروس الحكمة في الحياة السياسية، وربما هذا ما دفع مونتسكيو أن يكتب عنه في كتابه «روح القوانين»: «أن الاعتدال هو الفضيلة العليا للمُشرع»، فالاعتدال السياسي يقف ضد فكرة النقاء الأيديولوجي التي تخلق أزمات في الحياة السياسية، وتخلق حالة إقصاء سياسي واجتماعي واسعة، إذ إن الأيديولوجيا تشبه النظارة الملونة التي يرى لابسها العالم من خلالها، في حين أن الاعتدال هو رؤية العين للواقع كما هو بغير تلوين أو تشويه، ومن ثم يصبح الاعتدال مفهوماً معقداً، يحتاج إلى إعمال واسع للعقل، ومعرفة عميقة بالواقع، وقدرة ابتكارية على بناء المشتركات المجتمعية والإنسانية، وتجنب الصدامات الفجة، والابتعاد عن الروح الاستئصالية.
المؤرخ روبرت مكلور كالهون، في كتابه «الاعتدال السياسي الأمريكي في القرنين الأوليين»(4)، يقدم تحليلاً عميقاً لبنية الاعتدال في التاريخ السياسي الأمريكي، ويؤكد أن الاعتدال ارتكز على المبادئ والحصافة، وأنه من أخلاقيات السياسة، اعتمد كالهون على أكثر من مائة مرجع تم نشرها على مدار نصف قرن لإثبات أن المعتدلين صنعتهم السياقات التي نشؤوا فيها، وعلى حد تعبيره «أن المعتدلين صُنعوا ولم يُولدوا»، ولعل أهمية الكتاب ترجع إلى كونه وثيقة تاريخية عن السياسة الأمريكية لمواجهة نزعات التطرف التي سادت الولايات المتحدة، إبان المحافظين الجدد ورؤاهم الأيديولوجية البعيدة عن الاعتدال، إذ يؤكد أن الاعتدال كان أحد العناصر المهمة للقوة والاستقرار في التاريخ الأمريكي.
أما ماتيس لوك، وإيدو دي هان، في كتابهما «الاعتدال في التاريخ الأوروبي الحديث»(5)، فيُعيدان اكتشاف أشكال الاعتدال السياسي في التاريخ الأوروبي الحديث منذ الثورة الفرنسية وحتى الوقت الحاضر، باعتبار أن الاعتدال السياسي كان الطريق الوسط بين التطرف الأيديولوجي طوال التاريخ الأوروبي، وأن ذلك التاريخ يضم الكثير من الخبرة السياسية لمفهوم الاعتدال، ويرى البعض أن هذا الكتاب هو أول تفسير تاريخي مقارن للاعتدال في أوروبا.
أما ألكسندر سيمث، وجون هولوود، فيقدمان في كتابهما «علم اجتماع الاعتدال»، و«دراسة سوسيولوجية عن الاعتدال»، يستكشفان خلال جذور المفهوم وأصوله الفكرية في السياسة والدين والمجتمع خلال القرن العشرين، ويحاولان تنقية المفهوم من شوائبه باعتباره أحد المفاهيم السياسية والاجتماعية المهمة التي يحتاج إليها الواقع المعاصر، في عصر يتسم بالاستقطاب الثقافي والسياسي، والاختلال الاقتصادي، ونمو نزعات التطرف والعنف، فالاعتدال أحد المفاهيم القادرة على إثراء الواقع السياسي والاجتماعي لمواجهة الانقسامات والاحتقانات المتصاعدة في عالم السياسة.
_________________________
(1) مفكر سياسي أيرلندي، يعتبر من رواد الفكر المحافظ الحديث، من أشهر أعماله «تأمّلات حول الثورة في فرنسا» توفي عام 1797م.
(2) On Moderation: Defending an Ancient Virtue in a Modern World.
(3) Faces of Moderation: The Art of Balance in an Age of Extremes.
(4) Political Moderation in America’s First Two Centuries.
(5) The Politics of Moderation in Modern European History.