أثنى الله عز وجل على البكائين من خشيته، وجعل لهم مكانة خاصة؛ حيث إن الدموع المنهمرة خشية لله عز وجل لا تكون إلا استجابة لتفاعل إيماني قلبي خالص له سبحانه، ودليلاً على صدق الإيمان إن لم تكن رياءً وسمعة، أو نتيجة باعث آخر غير الباعث الإيماني.
قال تعالى في وصف أولي العلم: (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) (الإسراء: 109)، وأثنى الله عز وجل على أنبيائه عليهم صلوات الله وتسليمه بقوله تعالى: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) (مريم: 58).
ورغبت السُّنة المطهرة في البكاء من خشية الله رغبة فيما عنده سبحانه وطمعاً في مغفرته، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عُرضت عليَّ الجنة والنار فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً»، قال أنس: فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أشد منه قال: غطوا رؤوسهم ولهم خَنِينٌ. (رواه البخاري ومسلم).
وفي يوم العرض على الجبار لن يكون هناك منجاة من حرارة شمس القيامة إلا أن يستظل العبد بظل عرش الرحمن، وهؤلاء قلة مختارة من المسلمين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم: «ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّه خالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» (متفق عليه)؛ وهنا قد ذكر الله خالياً، بعيداً عن الناس وشبهة الرياء والنفاق، ذكر الله وعرف قدره وأدرك عظمته واشتاق للقائه ففاضت عيناه خشية لله، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله» (رواه الترمذي بسند حسن عن ابن عباس).
معينات على البكاء من خشية الله
البعض قد يشكو من جفاف العين وقسوة القلب بسبب الكثير من الحوائل بينه وبين الله عز وجل من ذنوب ومعاص وقصور ومسافات ابتعدت به كثيراً عن سبيله فاستعصت الدموع في عينه وتجمدت كما تجمد القلب قسوة، وهناك معينات وضعها الله عز وجل لينال العبد رحمته ومغفرته، منها:
1- معرفة مقام الله تعالى:
أكثر الناس خشية لله عز وجل العلماء لمعرفتهم بمقامه سبحانه وبقدرته وعظيم خلقه، فيقول تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (فاطر: 28)، والمعرفة المطلوبة هي المعارف التي تغذي العقل البشرية بمخلوقات الله عز وجل، وفي آيات كثيرة تنتهي بدعوة الإنسان كل إنسان للتفكر والتدبر والتعلم والسير في الأرض، ولم تتنزل تلك الآيات الكريمة لمجرد السرد أو التسلية، وإنما لإيقاظ عقل المسلم وتنبيهه.
2- ذكر الموت وزيارة القبور:
يقول تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (آل عمران: 185)؛ فالموت هو الحقيقة المطلقة في حياة الإنسان، فليس هناك إنسان مخلد، وحين يستحضر المسلم الموت في كل وقت، يرق قلبه في الانتظار الفراق الحتمي للدنيا وتولد الشعور بالمراقبة والترقب واستحضار معية الله تعالى، قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (ق: 37)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من زيارة المقابر ليلاً ونهاراً، وكان إذا كان يوم عائشة يزور البقيع.
وعن ابن مسعودٍ قال: خط النبي صلى الله عليه وسلم خطًّا مربَّعًا، وخطَّ خطًّا في الوسط خارجًا منه، وخطَّ خُطُطًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، فقال: «هذا الإنسان، وهذا أجله محيطًا به، أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارجٌ أمله، وهذه الخُطُط الصغار الأعراضُ، فإن أخطأه هذا، نَهَشَه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذ» (رواه البخاري)، ولا شيء يرقق قلب المسلم مثل معرفة حقيقة الدنيا وقرب الموت وملاحقته له في كل حين.
3- ذكر يوم القيامة والعرض على الجبار:
من معينات البكاء من خشية الله، ذكر أهوال يوم القيامة ولحظات العرض على الرحمن، والله عز وجل يقول مخوفاً عباده من مشاهد القيامة: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (البقرة: 281)، ويكفي أن يقرأ الإنسان تلك الآيات لتزلزل نفسه، وتذرف عينه خشية من الله: (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ {15} وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ {16} وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ {17} يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) (الحاقة).
4- مصاحبة الصالحين ومعايشتهم:
من أهم فوائد صحبة الصالحين ومعايشتهم هو التعلم منهم، والاستفادة من دفعهم نحو الطاعة والصلاح ويعينونه على الاستقامة على منهج الإسلام، وقد أمر الله تعالى بملازمة الصالحين فقال تعالى: (وَاصبِر نَفسَكَ مَعَ الَّذينَ يَدعونَ رَبَّهُم بِالغَداةِ وَالعَشِيِّ) (الكهف: 28)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» (أخرجه أحمد، وأبو داود).
5- تلاوة القرآن وتدبره:
القرآن كلام الله عز وجل ورسالته لهداية البشرية، تلاوته بغير تدبر قد لا تجدي ولا تؤتي ثمارها، وعليه فلا بد للمسلم من تدبر وفهم ووعي بآياته حتى تؤثر فيه كما أثرت في جيل الصحابة الأول، وقد قال الله تعالى فيه: (إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً {107} وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً {108} وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) (الإسراء)، وقال سبحانه منبهاً من يتلقونه بتدبر: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد: 24)، وإذا تدبر المسلم في قراءته تحقق فيه قول الله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر: 23).
والأمر لا يأتي من قراءة ليلة أو ليلتين، وإنما تلزم المسلم المداومة على ذكر الله، وزيادة ورد القراءة اليومي وتثبيته يومياً وأقل ما فيه أن يختمه مرة كل شهر، هنا فقط ينفتح قلبه للقرآن ويسمو به ويطهره ويغرس فيه الخشية ويلين قلبه وعينه خوفاً وشفقة من الله.