أكثر من عشر رسائل تلقيتها في الأسبوع الماضي منها الهاتفي (التليفوني)، ومنها البريدي، ومنها الإلكتروني. ولن أقف إلا عند رسالتين: الأولى من صديقي الشاعر عبد الله رمضان؛ فقد ذكرني بمقالين كتبتهما في الأهرام ردًا على لويس عوض سنة 1983، وكان لويس عوض قد اتهم جمال الدين الأفغاني بالعمالة والنفعية والسقوط، وذلك في سلسلة مقالات نشرتها مجلة (التضامن) التي تصدر بالعربية من لندن. وأعجب من ذلك أنه ذكّرني بما كتبه أستاذنا محمد الغزالي – رحمه الله – من كلمات طيبات أعتز بها في ثنائه على المقالين.
والثانية رسالة بريدية من الأخ محمود عبد الفتاح محمد (من شطانوف مركز أشمون منوفية) وأهم ما جاء فيها “.. نحن أمة محمد صلي الله عليه وسلم، أمة لا إله إلا الله التي وصفها الله سبحانه وتعالي بقوله (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: 110)، كلنا موحدون ونؤدي الفروض فكيف ننهزم نحن العرب دائمًا من أبناء القردة والخنازير الذين لعنهم الله، وضرب عليهم الذلة والمسكنة، ومهما قيل عنا وعنهم فنحن في مجموعنا خير منهم في العقيدة والتدين والأخلاق.
ونحن الآن في طريقنا لتلقي هزيمة جديدة علي يد الصليبيين الأمريكان والإنجليز وغيرهم. أليس من حق المسلم أن يسأل: أين نصر الله فهو القائل: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا)(الحج: من الآية38),. وهو القائل: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم: 47).
ويعلم الله أن هذه الرسالة أثارت في نفسي مشاعر حزن وألم؛ لأن مضمونها يشغل كثيرين من الناس وخصوصًا الشباب. وفي سياق الإجابة على هذا التساؤل لا أجد أنفع من أن أحيل الأخ محمود علي شريحة من رسالة وجهها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلي سعد بن أبي وقاص قائد جيش المسلمين في جبهة الفرس: “…. أما بعد فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله علي كل حال؛ فإن تقوي الله أفضل العدة على العدو، وأقوي المكيدة في الحرب. وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم, وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله, ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة ؛ لأن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا… ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدونا شرّ منا فلن يسلّط علينا، وإن أسأنا فرب قوم سُلط عليهم شرّ منهم كما سلط علي بني إسرائيل – لما عملوا بمساخط الله – كفرة المجوس (فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً) (الإسراء: 5) واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم، أسأل الله ذلك لنا ولكم”.
فإذا ما نظرنا إلى هذه الشريحة من رسالة عمر رضي الله عنه ووظفنا “أسلوب الموازنة” خرجنا بالحقائق الآتية:
1 ـ في كل المعارك والصدامات يكون الأعداء أكثر من المسلمين عددًا, وأقوي عدة, ولكن المسلمين ينتصرون عليهم بطاعتهم لله, وعصيان أعدائهم له.
2 ـ تعليل ذلك أن الله – وهو القوي الناصر القدير – يكون في صفهم, فترجح كفتهم علي أعدائهم العاصين أصحاب العدد والعدة.
3 ـ إذا عصي المسلمون ربهم تخلي عنهم, وتركهم لأنفسهم, وبذلك يفقدون “قوة الترجيح” وهي قوة يعجز العقل عن حصرها.
4 ـ في هذه الحال يكون المسلمون متساوين مع أعدائهم في معصيتهم لله. ولكن يبقي أعداؤهم متفوقين عليهم في العدد والعدة فيهزمون المسلمين.
5 ـ وهذا لا يعني رضاء الله عن الكفار, ولكن يعني غضب الله علي المسلمين لإخلالهم بشروط “عقد التوحيد” ومقتضياته ويتمثل هذا في “التسليط العقابي”، أي انهزامهم علي يد من هم شر منهم, كما سلط المجوس عبدة النار علي بني إسرائيل – وهم أهل كتاب – لما عصوا ربهم.
**********
ويل للعرب…
وقد يستأنس – في هذه السياقة – بحديث أم المؤمنين زينب رضي الله عنها أن النبي صلي الله عليه وسلم دخل عليها فزعًا يقول: “ويل للعرب من شرّ قد اقترب، فتح اليوم من ردٍم يأجوج ومأجوج مثل هذه (وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها – أي على هيئة دائرة) فقلت: يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث” رواه البخاري ومسلم.
والخَبَث هو الشيء النجس المستقبح، ثم أطلق على الفسوق والفجور، وكل فاسد وقبيح وساقط من القول والعمل.
والردْم هو السد العظيم الذي بناه القائد الموحد (ذو القرنين) لحماية قوم مستضعفين من شر يأجوج ومأجوج وعدوانهم، وإلى هذا أشارت الآية الكريمة: (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً) (الكهف:94). ويكاد يكون هناك إجماع بين المفسرين على أن يأجوج ومأجوج هما التتار والمغول. ولكن الحديث لم يحدد ذلك كما لم يحدد زمانًا أو مكانًا.
يأجوجيون ومأجوجيون..
ونحن نؤمن إيمانًا جازمًا بواقعية كل عناصر هذا الخبر القرآني من شخصيات ووقائع. وذهاب المفسرين إلي نفوذ هؤلاء باسم التتار بقيادة هولاكو من ثغرة في السد، وتدميرهم ملك العرب بتدمير الخلافة العباسية في خلافة المستعصم آخر ملوك العباسيين يؤيد منطوق الحديث علي سبيل الترجيح.
وهذا يفتح الباب أمامي لاحتضان ما تعكسه الآيات والحديث من إيحاء بأن القصة – بكل عناصرها- تتجدد في كل زمان بعناصر مشابهة, وأكاد أري أن ذا القرنين وأتباعه رمز – في كل عصر – للموحدين الأنقياء الأتقياء, الذين يبنون سدًا من القيم والأخلاقيات والمثل العليا لحماية أمتهم من “اليأجوجيين والمأجوجيين” العدوانيين الفاسدين المفسدين الساقطين الذين يعملون علي هدم هذا السد القيمي الشامخ ليسود منطق الفجور والفسق والوقاحة والجرأة علي دين الله، ويكثر الخبث الذي يكون به هلاك أمة ضعفت، أو ضاعت فيها أصوات الصالحين والمصلحين.
وأعتقد أنني لا أبالغ إذا قلت إننا نعيش حاليًا هذا الواقع الأليم، وإنٍ تفوق الأمريكان والإنجليز والصهاينة علي يأجوج ومأجوج في استخدام صنائع وعلماء وزعماء من جلدتنا ويتكلمون لساننا ويصلّون صلاتنا ويسكنون أرضنا، وها نحن أولاء نراهم بوشيين شارونيين أكثر من بوش وشارون.
“سد القيم” ينهار.. ينهار، وبانهياره تنهار الأمة بعد أن ضيعت الأمانة وتوسد الأمر غير أهله، وسقط العدل والصدق والطمأنينة، وساد الكذب والغرور والخيانة والفجور والدكتاتورية.
_______________________________________________
المصدر: الموقع الرسمي للدكتور جابر قميحة.