مع ولوج الطلاب إلى فصول العلم، خلال العام الدراسي الجديد، تتزايد الحاجة إلى إحداث نقلة نوعية في المنظومة التعليمية، ومخرجاتها النهائية، التي تركز في كثير من الأحيان على حجم التحصيل كماً لا كيفاً، بما يخل بالنتائج المراد الحصول عليها في بلداننا العربية.
ومن المصارحة القول: إننا نقبع في عالم نظري، على حساب التطبيقات العملية، والجوانب المهارية، والأنشطة التربوية الحديثة، التي تتكفل بإعداد طالب قادر على التفاعل مع معطيات العصر، بل منتج لها، وصانع للمعرفة، ومشارك في كل ما هو جديد ومفيد للبشرية.
في هذا الصدد تحديداً، يشغلني الاهتمام بحصص الأنشطة، أو الحصص الإبداعية، التي ترتكز على تنمية المواهب، وإطلاق ملكات الإبداع لدى الطلاب، ورفع قدراتهم الذهنية، وتطوير حاسة الابتكار لديهم، وتعزيز قدراتهم على حل المشكلات بطرق غير تقليدية.
ويتبنى المختصون والقائمون على طرق التدريس الحديثة التوسع في فصول «التفكير خارج الصندوق»، التي تهتم بالاستثمار في قدرات الطالب، واستكشاف مواهبه، وهي لب النجاح في منظومات التعليم التي تطبقها البلدان المتقدمة.
أذكر من واقع التجربة، كيف كانت حصة التعبير نافذة لي على المستوى الشخصي لاستكشاف قدراتي في مجال الكتابة، إلى جانب نشاط الإذاعة المدرسية، ومعرض الصحافة، وهي أنشطة تكاملت بصورة غير مباشرة في صقل إمكاناتي، وصناعة توجهاتي مستقبلاً إلى عالم الصحافة والكتابة.
كذلك كانت الحصص العلمية، وحصص الألعاب، والأنشطة الأخرى مثل المجال الزراعي، والصناعي، والتدبير المنزلي، مفرخة لتخريج نماذج ناجحة في مجالات وحرف عدة، فقط، كان ينقصها بعض الاهتمام والتطوير بشكل ينتهي إلى تخريج مبتكرين ومخترعين، وصناعة لاعبين متميزين في ألعاب مختلفة، يتنافسون في أرقى البطولات القارية والدولية.
وأزعم أن هذا النهج قد تراجع في بعض مدارسنا العربية، تحت وطأة كثافة الفصول، وتفشي ظاهرة الدروس الخصوصية، وتسريب الامتحانات، وغيرها من الظواهر السلبية التي أضرت بمخرجات العملية التعليمية والتربوية، وأخطرها توجيه الطالب لدراسة ما وفق قواعد تنسيق الجامعات، دون النظر إلى ميوله وقدراته ومواهبه، لكن الحال ربما تختلف في دول عربية أخرى، تهتم بحصص الأنشطة، وفصول الإبداع.
نظام ناجح
في هذا السياق، هناك طرق حديثة لقياس ذكاء الطالب، ومعرفة قدراته، وتحديد ميوله وتوجهاته، ليس وفق درجاته فحسب، بل بناء على عوامل أخرى تتعلق بقدرته على الإبداع، والتفكير النقدي، وحل المشكلات، والمرونة، والتفاوض، والإيجابية، والقدرة على اتخاذ القرارات، وإدارة الأفراد، والعمل مع الآخرين.
وتوفر تلك الأساليب قاعدة صلبة لنظام تعليمي ناجح، كما هي الحال في ألمانيا، التي تطبق نظاماً يعتمد على إلحاق التلاميذ بالمدارس التي تناسب أداءهم المدرسي وقدراتهم العقلية والذهنية، حيث يجري تقسيم الطلاب إلى 3 أصناف؛ المتفوقون ويتم إلحاقهم بمدارس «Gymnasium»، ومتوسطو الأداء الذين يلتحقون بمدارس «Realschule»، ومحدودو الأداء الذين يتوجهون إلى مدارس «Hauptschule» المعنية بتعلم وإتقان الحرف المهنية.
في ظني، أن بلداننا العربية في أمسّ الحاجة لانتهاج هذا الأسلوب، بما يراعي احتياجات سوق العمل، ومتطلبات وظائف المستقبل، التي تتجه بوتيرة متسارعة نحو الذكاء الاصطناعي، والتطور التكنولوجي الهائل، وعالم الألفية الثالثة الذي يعمل تحت شعار «عن بُعد»، سواء في التعليم، أو التسوق، أو الاستثمار، بل والتداوي وإجراء العمليات الجراحية عن بُعد.
قبل سنوات، قام طلاب في ألمانيا ببناء بيت نموذجي يعتمد على الطاقة الشمسية فقط وينتج فائضاً منها، وآخرون من مصر صمموا «روبوت» قادراً على اكتشاف الآفات التي تصيب الأراضي الزراعية، وفريق طلابي مغربي اخترع سيارة تعمل بالطاقة الشمسية، وآخر نجح في تصنيع كرسي ذكي لمساعدة الأشخاص من ذوي الإعاقة، وهي مشاريع تمت بروح إبداعية وطاقة مبتكرة، خارج الصندوق.
لذلك، أطرح في تلك السطور، ونحن في بدايات العام الدراسي، روشتة مبدئية، ترتكز على تخصيص حصة يومياً للمواهب والإبداع، حصة للتجربة والابتكار، تتنوع فيها الأنشطة الطلابية، وتتراكم عبرها الخبرات العملية، بما يتوافق مع المرحلة العمرية للطلاب، مثلاً حصة لتقديم برنامج إذاعي، وأخرى لتنفيذ تجربة علمية، وثالثة لتصنيع غذاء ما، ورابعة لابتكار آلة بسيطة، وخامسة للخطابة والإلقاء، وسادسة لوضع دراسة جدوى، وسابعة للهو والتسابق، وثامنة لتعلم فنون المناظرة والتفاوض، وتاسعة لطرح أفكار غير تقليدية، وغير ذلك من أنشطة تلبي احتياجات الطالب، وتميط اللثام عن ملكاته.
ومن الأفكار المقترحة في هذا الشأن، الاعتناء بتجربة النوادي العلمية، ونوادي الروبوتات، وتنظيم مسابقات البرمجة، واختبارات الذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني، وبناء مجسمات لمشاريع هندسية، وبناء الطائرات بدون طيار، وأنشطة محاكاة الاستثمار، وإدارة المشاريع الصغيرة، وإدارة الوسائط الاجتماعية، وكيفية تنظيم حملات التوعية، وورش الكتابة والتصميم والتصوير، والإسعافات الأولية، والدفاع المدني، والأعمال اليدوية والحرفية، وإعادة التدوير، وحماية البيئة.
الأنشطة الطلابية كثيرة ومتنوعة، ويمكن صياغة أنشطة تناسب كل مجتمع على حدة، وتوافق الفئة العمرية للطالب، على أن يكون الإبداع شعار حصتنا اليومية، وأن يكون هدفها اكتشاف عالم، أو صناعة داعية، أو تحفيز مخترع، أو تخريج تقني وحرفي على أعلى مستوى، يحقق النتائج المرجوة وطنياً وعربياً كأفضل استثمار في العنصر البشري.
هي ثقافة بالتأكيد، يجب تعزيزها في مدارسنا ومحاضننا التربوية والتعليمية، بتفعيل المبادرات الطلابية كجزء من ثقافة إيجابية يجب غرسها في نفس كل طالب علم، مفادها أن بإمكانه استخدام تعليمه لإحداث فرق، وحل مشكلة، وتحسين الحياة حوله، وليس مجرد الحصول على درجات وشهادات فقط، فالعلم بلا عمل كشجرة بلا ثمر.