إذا كانت المهمات الرئيسة للرسل عليهم الصلاة والسلام التذكير والتعليم والتزكية؛ فوراثة النبوة الكاملة هي استطاعة هذه الأمور على الكمال والتمام والقيام بها وأداؤها على أكمل وجه خالصة لله تعالى لا يعتريها رياء ولا شك ثابتة وراسخة كالجبال، بل أشد رسوخًا وثباتًا.
ونادرًا ما تجتمع هذه الصفات الثلاث الكاملة في شخص واحد؛ فقد نجد داعية وواعظًا غير متعلم، وعالمًا لا يمتلك مقومات الدعوة والوعظ، وعالمًا وداعية غير قادر على التزكية، ومن اجتمعت له هذه الصفات أو القدرات الثلاث ملك زمام الدعوة والإصلاح والتجديد، وإلا فعملية الإصلاح والتجديد تبقى موزعة بين العاملين فيها والقائمين عليها بحسب ما يتمايزون به من امتلاك واحدة من صفات العلم، والدعوة، والتربية والتزكية.
وأهم ما ينبغي أن ينصب عليه وعظ الوعاظ وكلام الدعاة هو التذكير بآيات الله في الأنفس وفي الآفاق، والتذكير بأمر الله وأيامه، والتذكير بوعده ووعيده، وعقوباته وانتقامه، والتذكير بما أوعده وأعده لأهل طاعته وأهل معصيته من ثواب وعقاب.
وأهم علم يجب أن يبدأ به العلماء والدعاة والمربون؛ هو تعليم القرآن الكريم والسُّنة النبوية الشريفة (الحديث والسيرة) التي هي الشارح الأول والأصيل للقرآن العظيم؛ (وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران: 79).
وأهم ما ينبغي أن تقوم عليه ويكون ركيزة أولى لتربية المُربين والمُتربين هو إصلاح القلوب وتحسين السلوك والارتقاء به إلى أفضل وأرقى المستويات حتى يصل لدرجة الكمال والتمام؛ (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ) (البقرة 151).
ومن المعلوم، بل المسلّم به في حركة الحياة وسيرورة التاريخ الإنساني أن لكل عصر أمراضه وأعراضه التي تستحدث فيه وتطرأ عليه، تختلف وتتنوع وتتعدد بحسب المكان والزمان.
والعالم الرباني والداعية الميداني هو من استطاع أن يعالج أمراض عصره وآفات زمانه، وتلك علامة نجاحه في التزكية والتربية، ورسوخ قدمه في الإصلاح والتجديد.
منذ العصر الأول لمهد الإسلام، ظهرت بعض الأمراض والآفات في المجتمع المسلم من انتحال نحل بعيدة عن جوهر الدين وأصوله من الإرجاء والتشيع والخارجية والاعتزال..
وفكرة الإرجاء قائمة على ترك العمل وعقيدة التشيع تقوم على الغلو في آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، والخوارج تقوم على التكفير لأدنى الشبهات دون دليل، ومدرسة الاعتزال بمذهبها المتسارع إلى التأويل بغير علم وكل حزب يذود وينافح عن اعتقاده وتصوره، ويستميت في الدفاع عنه والدعاية له بكونه المنهج الحق، وأن معتقديه ومعتنقيه هم الفرقة الناجية، والطائفة المنصورة دون غيرهم، وأن الجنة حكر عليهم دون سواهم!
ومثل هذه الأمراض في تلك العصور قابلة للعودة والظهور بشكل مستمر سواء في صورها القديمة؛ أو في صورة جديدة مُتغلفة بثياب العصر، وعلى العالم والداعية والمربي (الإحيائي) أن يدركها ويعالجها إن وجدت وأن يوجد مناعة ضدها إن لم تكن موجودة.
أي أن يستخدم أدوات التحصين ضدها قبل وجودها استباقاً لظهورها لوأدها في مهدها؛ أو منعها من التوسع من حيث الأصل بأدوات الحصانة والتحصين، كتاب الله والسُّنة وفق مشروع التزكية والتربية؛ مع مواكبة صناعة مشروع الإحياء والتجديد القائم على الأصلين (الكتاب والسُّنة).
والعالم الداعية المجدد المزكى عليه أن يرتب جلساته التربوية الإصلاحية للفرد والمجتمع من خلال دمج بعضها بعضاً؛ أو يخصص للوعظ جلسة عامة والتزكية والتربية جلسات خاصة تتعلق بالذكر والرقائق أو من خلال مذاكرة فردية أو جماعية يقرأ فيها بما هو ملائم ومناسب لها من علم ومعرفة وترقية وتزكية.
كما ينبغي تخصيص جلسات للعلوم الدقيقة وأوقات للتلاوة والتجويد وتدبر القرآن، وللسُّنة وللتفسير وعلوم القرآن، وللفقه وأصوله، ووقت لدراسة التيارات الفكرية المعاصرة التي تغزو الأمة كما غزتها تيارات البدع في العصر الأول وعقبته هذه التيارات الوافدة من علمانية ليبرالية وحداثية تحتاج إلى عودة إلى الأصلين -الكتاب والسُّنة- لمدافعتها بالعلم والدعوة والتربية والتزكية، وهذا ما ينبغي أن يقوم عليه مشروع الإحياء والتجديد في كل مكان وزمان.
________________________
رئيس مركز الكندي للدراسات والبحوث.