عند سؤال العاملين في العمل الخيري حول أقل المشاريع الخيرية إقبالاً من أهل الخير؛ سيقولون -غالباً- هي المشاريع التعليمية، وقد يكون ذلك راجعاً لما يراه المتبرع من أهمية في دعم المشاريع الإغاثية العاجلة، أو دعم تلك التي ورد ذكرها صراحة في الأحاديث النبوية الحاثَّة على الصدقة.
فتعليم العلم الشرعي وفق مناهج علمية منضبطة لا شك أنَّ له الأثر البالغ في المجتمع، ولكن هذا الأثر لا يُرى عياناً كآبار المياه وغيرها من منافع العمل الخيري؛ إنما يظهر في انضباط المجتمع وزيادة إنجازاته وإنتاجه ورُقيّه، وهذا يحتاج إلى وقت أطول وصبر أكبر.
ومن التجارب الملهمة فيما يتعلق بدعم ورعاية العلم الشرعي تجربة المدارس النظامية التي أسسها نظام الملك، ذلك الوزير السلجوقي المعروف (ت 485هـ)، الذي لم يكتفِ بأن يكون وزيراً عادياً، بل كان صاحب رؤية بعيدة، وأفق واسع، أدرك حينها أنَّ الأمة الإسلامية لن تنهض إلا بالعلم، وأن العلم لا يستمر إلا إذا توفر له الدعم المادي المستدام، ومن هنا جاءت فكرته العظيمة في تأسيس المدارس النظامية التي لم تكن مجرد مدارس؛ بل كانت مؤسسات وقفية تهدف إلى أن تظل قائمة حتى بعد وفاته، لتصبح منارات علم تسطع عبر القرون.
انتشرت أيام نظام الملك حركات باطنية وإلحادية تهدد نسيج المجتمع الإسلامي، التي وجدت في الفوضى فرصة لنشر أفكارها الهدامة، لكن نظام الملك لم يقف مكتوف الأيدي، بل أدرك أن الحل ليس بالقوة وحدها من خلال الجيوش الجرارة، وأن الفكر لا يحارب بالسيف فقط؛ بل لا بد من العلم والفكر والفقه المبني على الأسس الصحيحة؛ ليواجه الفكر بمثله، وينشر العلم الصحيح على أسس صحيحة منضبطة، ومن هنا نجد أن المدارس النظامية لم تكن لعلوم الشريعة فحسب؛ بل كانت حصوناً فكرية ضد هذه التيارات، فالعلم مع الفكر هو السلاح الأقوى، وهذا ما فهمه نظام الملك جيداً.
لقد أثبتت تجربة نظام الملك أن العمل الخيري من أوقاف وغيرها ليس مجرد أموال تصرف هنا وهناك، بل هو وسيلة لتغيير المجتمعات وتطويرها ونهضتها، بالإضافة إلى حمايتها من أهواء الفرق الضالة والتيارات التي تغتالها بنعومة، فمن خلال الوقف التعليمي استطاع أن يؤسس حركة علمية دامت لقرون، وخرَّجت آلاف الطلاب الذين كان تأثيرهم عميقاً في قراهم وحواضرهم.