نحن محاصرون بالأكاذيب والأخبار المشوهة والمغلوطة في ظل الرقمية، كما أن الكذب لم يعد قاصراً على الإنسان، ولكن شاركت فيه «الروبوتات»، هذا التدفق الهائل تطلب وجود قدرة عقلية على نقد تلك المعلومات والأخبار، واكتشاف صدقها وكذبها، والوصول إلى غايتها ومراميها، ناهيك عن الشبهات التي تثار حول العقائد والأفكار.
تشير إحصاءات عالمية أن 60% من الأشخاص على مستوى العالم يعتقدون أن المؤسسات الإخبارية تنشر قصصًا كاذبة بانتظام، وأن 94% من الصحفيين يرون أن الأخبار الملفقة مشكلة كبيرة، وأنه تمت مشاركة 500 ألف مقطع فيديو مزيف عام 2023م على مواقع التواصل الاجتماعي، وهناك نسبة كبيرة من جمهور مواقع التواصل الاجتماعي يعتقدون أن الأخبار المنشورة على تلك المواقع متحيزة.
هذا التدفق الكبير يمثل خطورة، فالدعاية والمعلومات المضللة تقود إلى استقطاب الرأي العام، وأزمات تعزز التطرف والكراهية، نظراً لأن الرقمية مركزية في حياتنا الإنسانية، والجميع متعرض لهذا التدفق الهائل، وبخاصة الشباب، تلك الفئة الأكثر إقبالاً واستخدماً للرقمية، نضف أن خضوع الرقمية للعوامل التسويقية زاد من تدفق المعلومات الناقصة والمغلوطة والكاذبة لتسويق المنتجات والخدمات، ويؤدي ذلك إلى تآكل قدراتنا النقدية، خاصة أن هذا التدفق يأتي عبر وسائل إعلامية متعددة ومتنوعة من الصحف والإنترنت والتلفزيون والإذاعة.
التفكير النقدي ضرورة
التفكير النقدي ذو تعريفات متعددة، لكن أهم ما يميزه أنه عقلاني، وهادف، ويستخدم مهارات معرفية، وقادر على التعامل مع المشكلات والأزمات، وتطوير منهج عقلاني ومنطقي لاتخاذ القرارات، ويبقى التفكير النقدي هو القدرة على التساؤل، واختبار الافتراضات والمسلمات السابقة، والشغف باكتشاف الغموض، والفحص والتفسير والتقييم والاستدلال والتأمل، والقدرة اتخاذ قرارات متزنة، وتبرير المواقف والأفعال، وقد عرفت جامعة لويفيل الأمريكية التفكير النقدي بأنه: العملية الفكرية المنضبطة التي تتضمن تصور المعلومات وتطبيقها وتحليلها وتركيبها وتقييمها بشكل نشط ومهارة، التي تم جمعها أو إنشاؤها من خلال الملاحظة أو الخبرة أو التأمل أو الاستدلال أو التواصل، كدليل على الاعتقاد والعمل.
ومن مهارات التفكير النقدي القدرة على تحليل المعلومات وتقييمها بشكل موضوعي، وهذا مدخل لاتخاذ أي قرارات صحيحة ومفيدة، ولعل ما يساعد على تنمية تلك المهارة، هو عدم التسليم للمسلمات المسبقة وإخضاعها إلى الشك، ومطالبة تلك المسلمات بتقديم الدليل على صحتها، كذلك النظر إليها من خلال أكثر من زاوية مع افتراض خطئها أو قلة نفعها، هذا المسلك يمنح العقل قدراً من الحرية في التفكير بلا قيود مسبقة.
وما أروع مقولة حجة الإسلام أبو حامد الغزالي: «من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر يبقَ في العمى والضلال، فالشك أول درجات اليقين»، وهو ما قرره أيضاً المؤرخ ول ديورانت في كتابه «قصة الحضارة» بقوله: «الفلسفة تبدأ عندما يتعلم الإنسان الشك، وخصوصاً الشك في المعتقدات التي يحبها، والعقائد والبديهيات أو الحقائق المقررة التي يؤمن بها ويقدسها».
ولكن يجب ألا يكون العقل النقدي عقلاً هداماً، أو عقلاً تفكيكياً فقط، غايته النقد، دون تلمس طريق جديد، ومراعاة مصالح معتبرة، ولكن ما يمنح ذلك العقل النقدي قوة، أو يلتزم منهجاً بنائياً، إلى جانب قدرته النقدية، وقد أصاب الفيلسوف واللاهوتي الإنجليزي جون هنري نيومان، عندما قال: «إن الوعي النقدي يزيل شجيرات الخطأ -وهو أمر طيب للغاية- ولكنه لا يستطيع أن يزرع بذور الحقيقة، فهو يحرق الأعشاب الضارة ولكنه لا يخصب الحقول»، ومن ثم يجب ألا يكون تفكيرنا النقدي مقتصراً على أحد الحدين، إما الإيمان بكل شيء، وإما الشك في كل شيء، فهناك قضايا وأمور خارج دائرة الإيمان، وهناك مثلها خارج دائرة الشك.
ورغم ذلك، فإن التفكير النقدي مهم، لأنه يمنح القدرة على تقييم المعلومات بشكل جيد، فهو وقاية من الكثير من التحيزات المعرفية، ويسمح بتطوير القدرات العقلية للإنسان، ويخفف حدة التعصب والكراهية، وهو وقاية من تعرض الشخص للخديعة والتلاعب، فتدريب الشخص على التفكير النقدي يسمح باتخاذ قرارات أفضل.
العقل ومهارة النقد
وقد أظهرت الأبحاث أن مهارات التفكير النقدي يمكن تطويرها من خلال التعليم والتدريب، ورغم أن البعض يمتلك ملكة التفكير النقدي، فإن العامل الأكثر تشكيلاً لمهارة التفكير النقدي هو التعلم والتدريب واكتساب تلك المهارة، لهذا فإن الاهتمام بالعقل ضرورة للوصول إلى ملكة النقد، في كتابه «صيد الخاطر» ينبه ابن الجوزي أن «الجارحة إذا دام تعطلها عن عملها الذي هُيئت له تعطلت وخمدت، وشغل العقل التفكر، والنظر في عواقب كالأحوال، والاستدلال بالشاهد على الغائب».
وفي كتابه، تعرض لبعض مسببات تغييب العقل النقدي، ومن ذلك إتباع العادات والتقاليد، فيقول: «وإني رأيت كثيراً من الناس لا يعملون على دليل، وربما كان دليلهم العادات، وهذا أقبح شيء يكون»، وحذر من آخرين، لا يفهمون الغاية رغم تحققهم من الدليل، فيقول: «ومن الناس من يُثبت الدليل ولا يفهم المقصود الذي دل عليه الدليل»، وهناك من يشخصن القضايا، وهذا أمر يضعف القدرة على النقل، ويخلق مجالات واسعة للتحيز، فيقول: «ولا تقلد دينك من قل علمه وإن قوى زهده».
وقد أصدر المفكر السوري خالص جلبي قبل 4 عقود كتاباً بعنوان «في النقد الذاتي»، شجع فيه على ممارسة النقد داخل الأطر الحركية الإسلامية، وكان يرى أن السبب في العجز عن تحقيق الأهداف يرجع إلى أسباب داخلية تحتاج إلى نقد وتصويب، واستدل من القرآن الكريم بقوله تعالى: (قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ) (آل عمران: 165)، لكنه أشار إلى قضية مهمة، وهي أن السعي لاكتشاف تأخر النتيجة عن السبب من أوجه النقد الذاتي الضرورية، كما أنه لن يتم تجديد دون نقد ذاتي، فالنقد يسبق التجديد دوماً.
ومن قديم قال الشاعر الكبير المتنبي:
وما انتفاعُ أخي الدنيا بمقلته إذا استوَتْ عنده الأنوارُ والظُّلَمُ؟
قال المتنبي هذا البيت عتابًا لسيف الدولة الحمداني، أمير حلب، عندما استمع إلى الساعين بالوشاية في حقه، ولم يعمل سيف الدولة منهج الشك والنقد في كلامهم، ولكن انطلق من كلامهم إلى اتخاذ الجفوة مع المتنبي، وكان عليه أن يتحقق من الخبر ويتروى في القطيعة؛ لذا الذي يعطل حاسة الإبصار يستوي عنده النور والظلام، وكذلك من يعطل خاصية العقل في التفكير والنقد، يستوي عنده النافع والضار، والحسن والخبيث.