في إحدى أمسيات الشتاء، جلس أب يحتسي قهوته بعد يوم طويل، وراح ينظر إلى ابنه الصغير المنهمك في واجبه المدرسي، قال بحزم مغلف بالأمل: «أريدك أن تكون مثل أينشتاين، عظيمًا في علمك، مميزًا بين أقرانك، فلا مجال هنا للرتابة أو العادية»،
في عيني الأب شعلة توقّدها أحلام عريضة بأن يرى ابنه في الصفوف الأولى، متفوقًا، بارزًا، حاملًا إرث الأسرة وأفكارها، لكن، هل يدرك الآباء أن هذه التوقعات أحيانًا قد تصبح أعباءً تسلب الطفولة من أصحابها؟
التوقعات العالية التي يحملها الوالدان غالبًا ما تبدأ بنوايا نبيلة؛ إذ يسعى كل أب وأم لرؤية أبنائهم في أفضل حال، لكنها حين تلامس حدود المبالغة، تتحول إلى قيود تكبل أرواح الأطفال وتعرقل نموهم الطبيعي، الأبناء ليسوا صفحات بيضاء نكتب عليها أحلامنا، بل هم بذور تحمل في داخلها إمكانات مختلفة، فما يزهر في تربة خصبة من الرعاية والدعم، قد يذبل إذا أثقلته الضغوط.
الأبناء في مجتمعاتنا غالبًا ما يُنظر إليهم كامتداد طبيعي لتطلعات الأسرة، يحملون رايتها ويمثلون قيمها، لكن هذا التصور يضعهم أحيانًا في مواقف صعبة، حيث يُطلب منهم أن يكونوا أكثر نضجًا مما تسمح به أعمارهم، وأن يحققوا نجاحات تفوق أحيانًا قدراتهم الفطرية.
إن التوقع من الطفل أن يتصرف كرجل أو أن يتحدث بحكمة الكبار قد يبدو مغريًا، لكنه يغفل حقيقة أن الطفولة والمراهقة ليستا مجرد محطات مؤقتة، بل مراحل تكوينية ضرورية لتشكيل الشخصية.
تخبرنا نظريات علم النفس أن الطفولة هي الأساس الذي يُبنى عليه كل شيء، وفقًا لعالم النفس إريك إريكسون، فإن الأطفال خلال مراحل نموهم يسعون لاكتشاف هويتهم وتطوير استقلاليتهم، حين يفرض الوالدان هوية معينة أو مستوى معينًا من الإنجاز، فإن ذلك يخلق صراعًا داخليًا قد يؤدي إلى أزمة هوية، التوقعات المرتفعة قد تؤثر أيضًا على احترام الذات لدى الطفل، إذا كانت المعايير الموضوعة تفوق قدراته الطبيعية، فإن إحساسه بالرضا عن نفسه يتآكل تدريجيًا، كما أن هذه التوقعات قد تعيق الطفل عن خوض التجارب الحرة التي تتيح له استكشاف العالم وتطوير مهاراته بمرونة، الطفولة ليست سباقًا نحو القمة، بل هي رحلة اكتشاف تنمو فيها الأجنحة تدريجيًا.
وقد نجد شواهد من التراث الإسلامي تدعم أهمية التدرج في التربية ومراعاة مراحل النمو المختلفة، حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مُروا أولادَكم بالصلاةِ وهم أبناءُ سبعِ سنين، واضربوهم عليها وهم أبناءُ عشرِ سنين»، كان ذلك تأكيدًا على أهمية التدرج في تحميل الطفل المسؤوليات بما يناسب عمره، هذه الحكمة النبوية تعكس فهمًا عميقًا للنمو النفسي للطفل وضرورة التوازن بين الحزم والرعاية.
إن استحضار شواهد من التاريخ الإسلامي يظهر لنا أيضًا كيف تعامل السلف مع الأبناء برفق وعناية، دون أن يثقلوا كواهلهم بتوقعات مبالغ فيها، الخليفة عمر بن عبدالعزيز، على سبيل المثال، اشتهر بحكمته في التربية، فقد كان يدرك أن الأبناء ليسوا محلاً لإثبات نجاح الآباء، بل هم أمانة يجب أن تُرعى بحب وتفهّم.
قد يلجأ البعض إلى أمثلة تاريخية لتبرير رفع سقف التوقعات، كقصص العباقرة، مثل ليوناردو دافنشي، وإسحاق نيوتن، الذين أبدعوا في سن مبكرة، ولكن يمكن أن نجد أمثلة مماثلة في تاريخنا الإسلامي أيضًا، كالإمام الشافعي الذي حفظ القرآن صغيرًا وبرع في الفقه في سن مبكرة، لكن ما يغفله كثيرون أن هذه الشخصيات نشأت في بيئات داعمة تحترم قدراتها الفطرية ولا تفرض عليها التزامات تفوق حدود إمكانياتها الطبيعية.
النبوغ الذي يظهر في بعض الأطفال ليس مجرد نتيجة للتوقعات العالية التي يحملها الآباء أو البيئة الأسرية التي ينشؤون فيها، بل هو نتاج مجموعة من العوامل المتشابكة التي تتداخل فيما بينها لتشكل شخصية الطفل وتؤثر في مسار تطوره، التوقعات العالية قد تكون أحد هذه العوامل، لكنها ليست العامل الوحيد أو الأهم، هناك قوى أخرى تؤدي دورها في صناعة النبوغ، بعضها داخلي ينبع من طبيعة الطفل نفسه، وبعضها خارجي يرتبط بالبيئة المحيطة والفرص المتاحة.
القدرات الفطرية والجينات الوراثية تؤدي دورًا محوريًا في تحديد إمكانات الطفل، فالجينات تساهم في تكوين الدماغ وسرعة استيعابه للمعلومات؛ ما يجعل بعض الأطفال يمتلكون ميزة طبيعية تجعلهم يتفوقون حتى في غياب دعم خارجي قوي، إلى جانب ذلك، يمتلك بعض الأطفال دافعًا ذاتيًا ينبع من شغفهم بمجال معين أو حبهم للتعلم والاكتشاف، هؤلاء الأطفال قد يتفوقون ليس بسبب توقعات أسرية، بل بفضل قوة داخلية تدفعهم للتميز.
التجارب والخبرات التي يمر بها الطفل، سواء من خلال الأنشطة التعليمية أو الاحتكاك بأشخاص ملهمين، تضيف بُعدًا آخر لنموه، كما أن الدور التربوي للمعلمين والمجتمع له أثر كبير في اكتشاف مواهب الطفل وتطويرها، الثقافة المجتمعية أيضًا تؤثر بعمق في توفير الفرص للطفل، إذ تزدهر المواهب في بيئات تُشجع الإبداع وتقبل الفروق الفردية.
أحيانًا يكون الحظ والعشوائية أيضًا من عوامل النبوغ، قد يلتقي الطفل بشخص يغيّر مسار حياته، أو يقرأ كتابًا بالصدفة يفتح أمامه آفاقًا جديدة، هذه اللحظات العابرة قد تكون أكثر تأثيرًا من سنوات من التربية الموجّهة.
في النهاية، التوقعات ليست العامل الوحيد الذي يحدد مصير الطفل، النبوغ لا يُصنع تحت الضغط وحده، بل يحتاج إلى بيئة متوازنة تحترم الفردية وتدعم النمو الطبيعي، الأطفال ليسوا مشاريع لتحقيق الأحلام، بل أرواح فريدة تحتاج إلى فهم، وتقدير، ورعاية، فقط حين نُعاملهم بهذه الحكمة، يمكنهم أن يُظهروا إمكاناتهم الحقيقية ويسيروا نحو تحقيق ذواتهم، لا ذواتنا.