فلا يُذكر العز بن عبدالسلام إلا وتُذكر الهيبة التي يهبها الله للعاملين المخلصين من عباده
البونُ شاسعٌ بين التربية وبين التعليم، فهدفُ التعليم هو إيصالُ المعلومة إلى المتلقي واستيعابه وفهمه لها دون النظر إلى تطبيقه أو عدم تطبيقه لمقتضاها، أما هدفُ التربية فهو إيصالُ المعلومة مع الممارسة المستمرة لمقتضاها وما تدل عليه في الواقع العملي حتى تنشئ في ذات المتلقي أثراً دائماً ينتج عنه تغيُّر في سلوكه، فلا تكفي المعرفة النظرية بالقيم والأخلاق لكي تصبحَ واقعاً وسلوكاً في حياة المرء، بل لابد من أن يتربى عليها ويمارسها واقعاً وتطبيقاً، ومن هنا يأتي دور المدرسة وأهميتها في حياة المسلم كونها بيت ومستهدف التربية المعرفية والخلقية، وهي محل التقويم والتقييم وتعديل السلوك وتوافر القدوة، وأهم حلقات منظومة الحياة: المعلمُ والعَالِمُ والقاضي.. وشرُّ الناس هم العلماء والمعلمون ما لم تكن أخلاقهم وسلوكهم دروساً حية للفضيلة والصدق وقول الحق في كل موطن، وقوة العالم أن يعملَ وجوده فيمن حوله أكثر مما يفعل هو نفسه، كما أن الأمراض المعدية تعمل فيمن لامسها أو اقترب منها، فالعالم القوي المتصل بالله حين يقف في وجه الظلم تنتشر قوته بالعدوى فيمن حوله.. ففعل العالم الفاضل في الناس أقوى من قراءة ألف كتاب في الفضيلة، كما أن سلوك المرأة العفيفة أمام مرمى العين والبصر يكفي ويزيد عن قراءة الكثير من كتب العفة.
وسيظل التاريخ يذكر ويسجل مواقف رائعة لعلماء دارت الأرض حولهم إجلالاً وتعظيماً لصنيعهم، فهذا ابن حنبل لا يترخص رغم كبر سنه وشدة العذاب عليه في محنة خلق القرآن، ورفعه الله في أعين العلماء من مشايخه فضلاً عن تلاميذه، ووهبه الله من كلِّ باب من الفضائل فله في كلٍّ نصيبٌ.. في الزهد إمام يُشهد له، وفي الورع يقارن بكبار الأمة، وفي الجرح معتدل، وفي الفروع فقيه، وهذا سعيد بن جبير كان وعاءً من أوعية العلم، فعن خصيف قال: كان أعلمهم بالقرآن مجاهد، وأعلمهم بالحج عطاء، وأعلمهم بالحلال والحرام طاووس، وأعلمهم بالطلاق سعيد بن المسيب، وأجمعهم لهذه العلوم سعيد بن جبير.
ويقول ميمون بن مهران: لقد مات سعيد بن جبير وما على ظهر الأرض رجل إلا يحتاج إلى سعيد، ولو لم يكن من تاريخ سعيد بن جبير إلا مشهد موته وحواره مع الحجاج لكفانا وزاد وفاض؛ لنتعلم منه كيف يكون العالمُ متصلاً بربه واثقاً في نصرته غير مكترثٍ بحاكم ظالم مهما بطش وتجبر، وحين أدخله جنود الحجاج على الحجاج سأله فقال: ما اسمك؟ قال: سعيد بن جبير. قال: بل أنت شقي بن كسير. قال: بل أمي كانت أعلم باسمي منك، قال: شقيت أنت وشقيت أمك، قال: الغيب يعلمه غيرك. قال: لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى. قال: لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلهاً. قال: فما قولك في محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: نبي الرحمة إمام الهدى. قال: فما قولك في علي في الجنة هو أم في النار؟ قال: لو دخلتها فرأيت أهلها عرفت. قال: فما قولك في الخلفاء؟ قال: لست عليهم بوكيل، قال: فأيهم أعجب إليك؟ قال: أرضاهم لخالقي. قال: فأيهم أرضى للخالق؟ قال: علم ذلك عنده، قال: أبيت أن تصدقني، قال: إني لم أحب أن أكذبك، قال: فما بالك لم تضحك، قال: وكيف يضحك مخلوق خلق من الطين والطين تأكله النار؟ قال: فما بالنا نضحك؟ قال: لم تستوِ القلوب، قال: ثم أمر الحجاج باللؤلؤ والياقوت والزبرجد وجمعه بن يدي سعيد. فقال: إن كنت جمعته لتفتدي به من فزع يوم القيامة فصالح، وإلا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت، ولا خير في شيء جُمع للدنيا إلا ما طاب وزكا.
ثم دعا الحجاج بالعود والناي فلما ضُرب بالعود ونُفخ في الناي بكى. فقال الحجاج ما يبكيك هو اللهو؟ قال: بل هو الحزن أما النفخ فذكرني يوم نفخ الصور، وأما العود فشجرة قطعت من غير حق، وأما الأوتار فأمعاء شاة يبعث بها معك يوم القيامة. فقال الحجاج: ويلك يا سعيد. قال: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار. قال: اختر أي قتلة تريد أن أقتلك؟ قال: اختر لنفسك يا حجاج فوالله ما تقتلني قتلة إلا قتلتك مثلها في الآخرة؟ قال: فتريد أن أعفو عنك؟ قال: إن كان العفو فمن الله، وأما أنت فلا براءة لك ولا عذر؟ قال: اذهبوا به فاقتلوه.
فلما خرج من الباب ضحك، فأخبر الحجاج بذلك فأمر برده. فقال: ما أضحكك؟ قال: عجبت من جرأتك على الله، وحلمه عنك، فأمر بالنطع فبسط فقال: اقتلوه. فقال: “وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض”. قال: شدوا به لغير القبلة. قال: “فأينما تولوا فثم وجه الله”. قال: “منها خلقناكم وفيها نعيدكم”. قال: اذبحوه. قال: إني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، خذها مني حتى تلقاني يوم القيامة، ثم دعا الله سعيد وقال: اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي فذبح على النطع.. فما مكث بعده سوى أربعين يوماً حتى قصمه الله عز وجل.
وما أمر العز بن عبدالسلام منا ببعيد، فلا يُذكر العز بن عبدالسلام إلا وتُذكر الهيبة التي يهبها الله للعاملين المخلصين من عباده، لا يُذكر العز (رحمه الله) إلا وتُذكر معه الجرأة على كل مخالف لشرع الله، مهما علا مكانه، وارتفعت بين الناس مكانته، ولما ذهب الشيخ أبو الحسن بنان الحمال إلى ابن طولون يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر وقد اشتد بطشه، أمر ابن طولون أن يُلقى الشيخُ للأسد، أسد أغلظ ما يكون في قفص يفتح من أعلى ويوضع له الشيخ، فما لان الشيخ ولا انتكس ولا شارك في انقلاب ولا فوَّض في قتل ولا أخذ بالرخصة، ولا هادن السلطان الجائر.
فيا برهامي، سموك ياسر تيمناً، ولم تأخذ من سيرة ياسر شيئاً، يا برهامي خاف الشيخ من الله فأخاف الله منه الأسد، يا برهامي حين وقف الشيخ في وجه السلطان الظالم نسي الدنيا الفانية فرآه الأسد الجائع كهالة من نور وليس رجلاً من لحم وعظم، يا برهامي لما انصرف الأسد عن الرجل ونام بجوار الشيخ الواقف سأله ابن طولون: ما الذي كان في قلبك وفيم كنتَ تفكر وأنتَ داخل القفص مع الأسد؟ أجابه الشيخ: لم يكن عليَّ بأس، وإنما كنتُ أفكر في لعابِ الأسد أهو طاهر أم نجس؟ يا برهامي، تحل التصويت على دستور لقيط وتروج له وتدعي أنه كأكل الميتة، يا برهامي، تتنكر من دستور الاستبضاع وأنتَ أحد آبائه وأولى بك أن تتبرأ وتتوب من سوء فعالك، فأنت لا تمثل إلا نفسك، ومن حولك لا يزيدون على أصابع اليد الواحدة، واسأل عنهم أمن دولتك، يا برهامي، أنت وثلتك القليلة أسأت إلى السلفية في أيام أضعاف ما أحسن إليها غيرك في عقود، يا برهامي: لو قلت كلمة حق الآن وأظنك لن تقول فلن يرميك الانقلاب في قفص مع الأسد، ربما يلقيك وعلى أقصى تقدير خلف زنزانة مع رجال نحسب أقلهم أفضل عند الله منك ولا نزكيهم على الله، بل الله يزكي من يشاء.
أما الطيب وجمعة وكريمة ومن دار في فلكهم فلا نعيب على ذبابٍ آثر البِركَ على الماء العذب، وفضل التِّيهَ عن دخول الباب، ولا نقول إلا: لعل الله يخرج من أصلابهم… لذا فلا يستحقون الكلام، رد الله أبعدنا عن الصواب للصواب…اللهم آمين.
a_alharon@yahoo.com