كشفت دراسة أجراها فريق د. أونور غنتركون، من جامعة الرور في بوخوم (ألمانيا)، كيفية تعامل الدماغ مع التصفير، ونشرت هذه الدراسة يوم 17 أغسطس في مجلة علم الأحياء Current Biology، لتزعزع الفكرة السائدة بأن نصف الدماغ الأيسر هو المهيمن في معالجة اللغة والتواصل.
في قرية الطيور التركية “كوسكوي”، المطلة على البحر الأسود، ولتجنب قطع الطرق الوعرة في هذه التضاريس الجبلية، ابتكر سكانها طريقة بسيطة للتواصل من خلال التصفير الذي يصل إلى مسافات أبعد من تلك التي تصل إليها لغة البشر.
تم تحديد قرابة 70 لغة تصفير
“لغة الطيور” الموجودة في قرية “كوسكوي” التركية هي واحدة من بين العشرات التي شملها استطلاع للغات الصفير في جميع أنحاء العالم، وقال جوليان ماير، من معهد العلوم المعرفية بالمركز الوطني للبحث العلمي بمدينة ليون الفرنسية: تمت دراسة 40 لغة صفير، ولكن تم إحصاء ما يصل إلى 70 لغة صفير في العالم.
وأضاف جوليان ماير: لقد تم تجاهل لغات الصفير المذهلة لمدة طويلة، فقد اعتبرها العلماء على أنها رموز سرية، وليست لغات حقيقية؛ وبالتالي لم يكترثوا بدراستها، وكل لغة صفير في الواقع هي مستمدة من اللغة المحكية المحيطة بها، وهي طريقة تعبير مبسطة تستخدم فقط في السياقات التقليدية، وتوجد دلائل على وجود هذه اللغة في القرن الثامن الميلادي في الصين.
كما تم اكتشاف وجود لغة الصفير في جميع القارات، ففي أمريكا على سبيل المثال، هناك الصفارات (أو صيحات الاستهجان) بالنسبة لقبائل الهنود الحمر المكسيكية، ونفس الشيء بالنسبة للقبائل التي تعيش في الأمازون، وفي أفريقيا، وقال جوليان ماير: آخر امرأة كانت تستعمل هذه اللغة في جبال البيرينيه الفرنسية توفيت عام 1998م.
لا يمكن لهذه اللغات أن تجد مكانها في المدن
أصبحت لغات الصفير في كثير من الأحيان مهددة، فلا يمكن لهذه اللغات أن تجد مكانها في المدن بفعل وسائل الاتصال الحديثة، أما في الريف، فقد باتت تخضع لهيمنة المناطق الحضرية، وهكذا أصبحت هذه اللغات ضحية ندرة المناطق الريفية، ففي منطقة الأمازون مثلاً، تستخدم قبائل الغافياو في القرى النائية في قلب الغابات المطيرة لغة الصفير، حتى إن الأطفال يستخدمونها، ولكن عند حدود الغابة ومع عمليات قطع الأشجار فلا يستعمل هذه اللغة إلا الهنود الذين تفوق أعمارهم الخمسين عاماً أو أولئك الذين ما زالوا يستخدمونها في عمليات الصيد.
وأكثر اللغات المصفورة شهرة هي السيلبو في جزيرة لاغوميرا، في جزر الكناري، وقد ورث الإسبان ممارستها عن البربر الذين احتلوا الجزيرة قبل وقت طويل من وصول الإسبان إليها.
وتشهد لغة السيلبو نهضة جديدة، فمنذ عام 1999م، أصبح تعليمها إلزامياً في الصف الابتدائي، وفي عام 2009م تم إعلان هذه اللغة تراثاً عالمياً من قبل اليونسكو، وبحسب جوليان ماير؛ فإنها اللغة الوحيدة التي مازالت تعتمد هذا الأسلوب في التواصل.
في صيف عام 2013م، تم اكتشاف لغة مصفورة بربرية في جبال الأطلس المغربية، ويوضح جوليان ماير قائلاً: اشتبهنا في وجودها منذ فترة طويلة، وهذا الاكتشاف كان بفضل الباحث جيرارد بيشي، مؤسس جمعية “لو بيرني سيفلي”، ففي القرن الخامس قبل الميلاد، ذكر المؤرخ اليوناني هيرودوت وجود لغة الصفير في شمال أفريقيا، وبعد خمسة وعشرين قرناً، كتب لوكليزيو، الحاصل على جائزة نوبل للآداب، في روايته “الصحراء”، عن تحاور اثنين من الرعاة البربر بلغة مصفورة.
تنشيط ضعيف لنصف الدماغ الأيسر
تتحدى صوتيات لغة الصفير الخبراء، إلا أن العلماء مؤخراً اهتموا بعملية الإدراك في هذه اللغة، وقام الباحثون بالتجربة مع 31 من أبناء هذه القرية التركية ممن يتقنون هذه اللغة من خلال استماعهم إلى مقاطع منطوقة، وتم توزيع مقاطع مختلفة بين الأذن اليمنى واليسرى، ثم طلب من هؤلاء المتطوعين أن يقولوا ما سمعوه، وكانت النتائج أن الأذن اليمنى، المقابلة لنصف الدماغ الأيسر، تجاوبت بطريقة أفضل مع المقاطع المنطوقة، ولكن يختفي هذا التفاعل حين تكون اللغة مصفورة، لكن هذه النتيجة لابد من تأكيدها عن طريق تصوير الدماغ.
وفي عام 2005م قام الباحثون بدراسة تفاعلات الدماغ مع رجل يتكلم السيلبو، ومن خلال التصوير بالرنين المغناطيسي، تبين أن هذه اللغة النشطة عموماً، تقوم بتنشيط نفس مناطق الدماغ عند التكلم باللغة المحكية، ومع ذلك، لاحظ الباحثون وجود تنشيط أقل في نصف الدماغ الأيسر.
وتفتح اللغات المصفورة آفاقاً مثيرة حول أصول اللغة، حيث يناقش العلماء أصل ظهور اللغة البشرية، وهل كان ذلك عن طريق التحكم في ذبذبات الحبال الصوتية؟ أو هو نابع عن إنتاج الصوت من الفم؟ وقد تم طرح هذه الفرضية البديلة في عام 2014م، فالقرود تسيطر في الواقع فقط على الأصوات التي تخرج عن طريق الفم.
ويلاحظ جوليان ماير أن لغات الصفير، ظهرت في العصور القديمة وطرق الحياة التقليدية، وهي تركز بالأساس على أصداء الفم، فهل بدأ الإنسان بالصفير قبل أن يتكلم؟
الرابط:
http://abonnes.lemonde.fr/sciences/article/2015/08/24/les-secrets-des-langues-sifflees_4735299_1650684.html