على الأرجح فإن أول محاولة إصلاح ديني في العصر الحديث قادها محمد بن عبدالوهاب (1703 – 1791م) وكانت في نجد، وقامت على أمرين أساسيين، هما: تنقية العقيدة ومحاربة الشرك من جهة، واتباع السُّنة الصحيحة من جهة ثانية، ثم نجح في إقامة دولة بالتحالف مع العائلة السعودية، وكانت عاصمتها الدرعية.
لكن الخلافة العثمانية بعثت محمد علي باشا (والي مصر) فهاجم هذه الدولة وقضى عليها ابنه إبراهيم باشا في عام 1814م بعد أن احتل كلاً من نجد والحجاز، ودمر الدرعية وأنهى هذه الدولة بشكل مؤقت، لتقوم مرتين أخريين في القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
ثم جاءت المحاولة الثانية للإصلاح الديني على يد محمد عبده (1849 – 1905م) في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فواجه تحدي الحضارة الغربية للأمة في مختلف المجالات الاجتماعية والسياسية والعقائدية والفكرية.
وألف عدداً من الكتب في مجال العقيدة والحضارة، وكتب تفسيراً للقرآن الكريم سُمي “تفسير المنار” ولم يكمله (تابع كتابته تلميذه رشيد رضا لكنه أيضاً توفي قبل إكماله)، وقام بمحاولات لإصلاح الأزهر والتعليم الرسمي والمحاكم والقضاء، وقدم مذكرات مفصلة إلى اللورد كرومر (الحاكم الإنجليزي العام على مصر) لتحقيق ذلك، وأنشأ جمعية تهتم باللغة العربية.
وربما قام بعض تلاميذ محمد عبده بمحاولات إصلاح جريئة تمت بتوجيه منه ورعايته ولكن من خلف ستار، ومن ذلك ما دعا إليه قاسم أمين في كتابيه اللذين أصدرهما في حياته وهما: “تحرير المرأة”، و”المرأة الجديدة”.
ويمكن أن نُدرج ما قام به علي عبدالرازق، وطه حسين – اللذان يعتبران من تلامذته أيضاً – في كتابين ألّفاهما بعد وفاته، ويعتبران من أخطر الكتب التي ألفت في العصر الحديث وهزت ثوابت في وجود الأمة، وهما: “الإسلام وأصول الحكم” لعلي عبدالرازق، و”في الشعر الجاهلي” لطه حسين.
فالأول اعتبر أن الخلافة من اختراع المسلمين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء داعياً ولم يأت حاكماً، والثاني: اعتبر أن القرآن الكريم انعكاس للبيئة الجاهلية في عقل محمد صلى الله عليه وسلم وهو ما ينفي عنه صفة الوحي، وقال: إن للقرآن أن يحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ولنا أن نصدق أو لا نصدق، مما اضطر الحكومة المصرية آنذاك أن تحاكم الكاتبين وأن تعدم كتابيهما.
ومن الجدير بالتنويه أن محاولة محمد عبده الإصلاحية كانت متجاوبة مع بعض معطيات الحضارة الغربية، كما رأينا في بعض الأمور السابقة فيما يتعلق بالمرأة والسياسة والتعليم والقضاء، وكان محمد عبده متعاوناً في هذا التوجه مع اللورد كرومر، ويمكن أن نضيف إلى التجاوب مع معطيات الحضارة الغربية موقف محمد عبده من الغيب.
فقد حاول محمد عبده أن يضيق الفجوة بين عالم الغيب وعالم الشهادة لصالح مادية الحضارة الغربية، فلجأ إلى التأويل وأوّل آيتيْ “فأرسل عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل” اللتين وردتا في سورة “الفيل” بأن المقصود فيهما جرثومة الجدري التي أهلكت جند أبرهة الحبشي، واستند في ذلك إلى رواية وردت تقول: إن مرض الجدري انتشر في الجزيرة العربية أثناء غزو أبرهة الحبشي للكعبة من أجل تدميرها.
لقد حدث تغير نوعي في المحاولة الإصلاحية لمحمد عبده، وحصل تعديل لمسيرتها على يد تلميذه محمد رشيد رضا، حيث تأثر بمدرسة محمد عبدالوهاب ونقل عنها الاعتماد على الحديث الصحيح، والاهتمام بأمور السنة ومحاربة البدع، والتركيز على تنقية العقيدة من الشوائب، والاجتهاد في إعادة الخلافة بعد سقوطها عام 1924م في إسطنبول، ولذلك ألف كتابا تحت عنوان: “الخلافة أو الإمامة العظمى”، ويمكن أن نعتبره رداً غير مباشر على كتاب “الإسلام وأصول الحكم” لعلي عبد الرازق.
ويمكن أن نعتبر إنشاء حسن البنا للإخوان المسلمين عام 1928م أحد التجليات الشعبية للمحاولة الإصلاحية في أخرى صورها على يد محمد رشيد رضا؛ لأن حسن البنا كان على علاقة وثيقة بمحمد رشيد وتأثر بأفكاره وبإضافاته الفكرية على مدرسة محمد عبده.
لكن هذه المحاولة الإصلاحية – التي قادها محمد عبده، وعدّل مسيرتها محمد رشيد رضا – لقيت تعثراً بعد الحرب العالمية الأولى، لأن النظام السياسي قام بعد ثورة 1919م على التنكر لدور الدين الإسلامي في بناء الأمة، فاعتبر أن الشعب في مصر أمة فرعونية، ولا علاقة للدين الإسلامي بتكوينها.
وقد دعا إلى هذا الأمر عدد كبير من مثقفي مصر ومفكريها، ومنهم: سعد زغلول، أحمد لطفي السيد، طه حسين، عباس محمود العقاد، سلامة موسى وغيرهم، وقامت أحزاب على تلك الدعوى، ومنها: حزب الوفد، حزب الأحرار الدستوريين.. إلخ.
لذلك اتجه الإصلاح الديني إلى الصراع مع الأطراف الأخرى حول هوية الشعب المصري، وإلى إبراز دور الإسلام في تكوين بنائه النفسي والعقلي والاجتماعي والثقافي، ومما يؤكد ذلك أن عاداته وتقاليده وأعرافه مرتبطة بتعاليم الإسلام وسننه وآدابه وتوجيهاته وأخلاقه.. إلخ، وليس هناك أي أثر للتاريخ الفرعوني في واقع الشعب المصري.
ثم تعثر الإصلاح الديني مرة ثانية بعد الحرب العالمية الثانية عندما قامت ثورة يوليو عام 1952 بقيادة جمال عبدالناصر وارتكزت على أمرين:
الأول: القومية العربية: التي تنكرت للدين الإسلامي عندما اعتبرت أن الأمة العربية قامت على اللغة والتاريخ، ولا دخل للدين الإسلامي في تكوينها، وهذا منافٍ ومخالفٌ للواقع مخالفة صارخة. والثاني: الاشتراكية: وقد اعتبرت هذه الاشتراكية المأخوذة من الماركسية أن الدين خرافة، ويجب استئصاله من واقع الحياة لأنه يغذي الأوهام ويوّلد الاستسلام للأغنياء والرأسماليين.
لذلك تعثرت المحاولة الإصلاحية بعد الحرب العالمية الأولى وبعد الحرب العالمية الثانية لأنها خاضت معركتين: الأولى من أجل الهوية، والثانية من أجل الوجود والبقاء في مواجهة الاستئصال والعنف الدموي اللذين أصلت لهما الاشتراكية في الصراع الطبقي بين البروليتاريا والبرجوازية.
ثم ظهرت تعقيدات أخرى في مسيرة الإصلاح الديني عندما قاد الخميني ثورة حكم بها إيران عام 1979م، وأصر على أن تكون الثورة الإيرانية ذات بعد طائفي فأضاف مادة في دستور الجمهورية توضح التزام الدولة بالمذهب الجعفري الاثني عشري إلى الأبد.
وقد جعل ذلك الساحة تصطبغ ببعد جديد لم يكن موجودا هو البعد الطائفي، فعقّد ذلك عملية الإصلاح وجعلها تواجه مشكلة جديدة هي: “التفتيت الطائفي” الناتج من الصراع السُّني/الشيعي، الذي غذته قيادة “ملالي إيران” وما زالت مصرة عليه.
كما ظهرت مشكلات أخرى في مواجهة الإصلاح الديني جعلته ينشغل عن الإصلاح في مواجهة التفتيت الإثني والطائفي والعرقي، عندما طرح الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن مشروع “الشرق الأوسط الجديد” بعد غزو العراق عام 2003م، وطرحت وزيرة خارجيته كوندوليزا رايس عام 2006م مبدأ “الفوضى الخلاقة” كآلية لتحقيق “الشرق الأوسط الجديد” الذي دعا إليه بوش، والذي ستكون “إسرائيل” واسطة العقد فيه.
استهدف هذا المشروع الأميركي تفتيت العراق وسورية ومصر والسعودية.. إلخ إلى دويلات صغيرة، مما جعل الإصلاح الديني يتوجه إلى العمل الدؤوب للمحافظة على وحدة الأمة ووجودها وكيانها، في مواجهة مختلف التهديدات الهادفة إلى التفتيت والناجمة من مشروع “الشرق الأوسط الجديد”.
الخلاصة: لقد قامت محاولتان للإصلاح الديني، الأولى: في القرن الثامن عشر على يد محمد بن عبد الوهاب، والثانية: في القرن التاسع عشر على يد محمد عبده، ثم تلاقحت المدرستان في بداية القرن العشرين على يد محمد رشيد رضا، لكن محاولات الإصلاح الديني تعثرت بسبب الصراع على الهوية الذي تمثل في الطرح القومي الفرعوني بعد الحرب العالمية الأولى، والذي اعتبر مصر أمة فرعونية لا دخل للدين الإسلامي في تكوينها.
ثم تعثر الإصلاح مرة ثانية بعد الحرب العالمية الثانية عندما طرح جمال عبدالناصر الفكر القومي العربي والفكر الاشتراكي، فتنكر الفكر القومي العربي للدين الإسلامي عندما اعتبر أن الأمة العربية تقوم على اللغة والتاريخ فقط ولا دخل للدين الإسلامي في تكوينها، كما اعتبرت الاشتراكية الأديان دون استثناء خرافة وأوهاما، لأنها نظم تستغلها البرجوازية في تخدير البروليتاريا، وهذا ما لا ينطبق على الإسلام وإن انطبق على أديان أخرى.
ثم ظهرت مشكلات أخرى في وجه الإصلاح الديني تتجلى في التفتيت الطائفي الذي أطلقه “مشروع ملالي إيران”، وفي التفتيت العرقي والسياسي الذي أطلقته “الفوضى الخلاقة” و”مشروع الشرق الأوسط الجديد”، مما أضاف صعوبات في وجه الإصلاح الديني كان عليه أن يواجهها ويضع لها حلولًا، وهو ما جعل الإصلاح الديني يتعثر مرة ثالثة في القرن الحادي والعشرين.
المصدر: موقع “الجزيرة نت”.