لعل حلقة النقاش التي جمعتني بعدد من الباحثين والناشطين اليساريين في فرنسا بجامعة ساينس بو وهي من معاقل اليسار الفرنسي؛ هي إحدى أهم رسائل الفهم التي تقترب من وعي إمكانية إقامة جسور ثقافية مع الغرب المعتدل، للوصول إلى توافقات إنسانية مشتركة تقلل من آثار الصراع الأيديولوجي، ومواجهات العنف التي خاضتها حروب أوروبا أو تدخلاتها العسكرية والسياسية، وحروب التطرف والغلو المسلّح الذي شنته جماعات السلفية الجهادية على المدنيين في الغرب.
شاركت في حلقة النقاش -التي ساهم في إعدادها بجهد مميز د. ستيفان لاكروا، وهو من أبرز الباحثين اليساريين من الجيل الشبابي الجديد، الداعم للحوار الإسلامي العربي مع الغرب والمتضامن مع قضايا العدالة العربية- نخبة من الأكاديميين: وهم د. كلير طالون، ود. ليلى سورا ود. سينتيا سلوم، ود. روبان بومون، والصحفي فيليب مشكوفسكي.
وكل المجموعة تصنف في إطار العهد اليساري الجديد، من شباب فرنسا المهتمين بقضايا الوطن العربي بعد إتقانهم اللغة العربية، مع التنويه بأن ما ذُكر على طاولة الحوار ليس بالضرورة ممثلا لآراء الزملاء، وإنما قد يكون نقداً لموقف الرواق الثقافي عموماً واليسار الفرنسي على وجه الخصوص.
وهنا لا بد من تأكيد مسألة مهمة، وهي أن رحلة الباحث هنا ليست خلاصات نهائية، وليست حالة أولى في البحث عن علاقات إيجابية، فهناك حوارات وجسور تواصل، بعضها نسقها الاتحاد الأوروبي ذاته، وجزءٌ منها يمكن أن يُفهم أنه في مظلة مصالحه، ولكن لا يمنع ذلك أن للاتحاد الأوربي هدفا في فهم حقيقة التوجهات الإسلامية برؤية عادلة، تساعد في علاقة إيجابية منصفة بين الشرق والغرب.
ويُستشرف من خلالها مفاصل إيجابية تعزل دعايات التطرف التي تنسب لكل خطاب الفكر الإسلامي وتقرنه بالعنف، وهي اليوم تُسعّر من حكومات مستبدة داخل العالم الإسلامي، بالتعاون مع لوبيات ذات ميول صهيونية أو مسيحية متشددة، أو رأسمالية متوحشة داخل الغرب، والذي اتضح كما هي تجارب الجنوب أن قدرة المال والدولار النفطي كبيرة على شراء ذمم ومؤسسات وربما شخصيات في الغرب.
فتُسخّر هذه المنصات الثقافية جهودها لخدمة الاستبداد العربي المتطرف، من داخل مؤسسات فكرية وبحثية ووسائل إعلام غربية، تحصل عبرها حكومات الاستبداد على إسناد خطير لهذه الأنظمة، في صراعها الداخلي مع شعوبها، أو صراع حروب مصالحها العبثية التي تستنزف مئات المليارات من ثروة هذه الشعوب، المحرومة من الحرية الدستورية والمساواة الاقتصادية.
كما أن هناك جهودا عديدة بدأت قديما -ولا تزال تتواصل- بين الحراك الثقافي الغربي والعربي، ولا يمكننا تقييم حصادها بسهولة، وإنما الذي يمكن أن نعتبره حصيلة واضحة أن هناك نقصا كبيرا في تنظيم هذا الحوار، في إطار أخلاقي يراعي المصالح الإنسانية والمشتركات القيمية، بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي المدني والديني، وهو ما يُمكن أن نعتبره إشكالية كبيرة، تساهم في خلق مساحة فراغ يملؤها التطرف، والتحريض المتبادل.
وسأعود إلى هذه القضية بعد أن أعرض خلاصات أهم حوارات باريس، وفهمي لرؤى الباحثين المشاركين في حلقة النقاش:
1- هناك إشكالية مبدئية طرحها الزملاء في أصل المسار الحواري: كيف يكون إسلامي/غربي؟
وأن المفترض أن يكون عربيا/غربيا أو إسلاميا/مسيحيا، وهو احتجاج مفهوم من الباحثين، لكون المبدأ لديهم هو الانفصال التام بين الفكرة الثقافية والفكرة الدينية المسيحية، الذي تم إنزاله على الحالة الإسلامية كما هي الديانة المسيحية، المختلفة تماما عن دينامية التفكير الإسلامي.
2- ولذلك طرح بعض الباحثين أن هذا الحوار أنسب له مسمى الحوار الكنسي المسيحي/الإسلامي، أي بين رجال الدين والعلماء المسلمين.
3- ثم قفزت بقوة -في حلقة النقاش- قضيتان لهما بعدٌ مباشر مع الاحتكاك الاجتماعي بين شعوب الغرب ومواطنيهم المسلمين، ومع الدول ذات الاحتكاك السياسي قرب أوروبا؛ الأولى هي موقف اليسار الفرنسي من تجربة حزب العدالة والتنمية التركي بعد النظام الرئاسي، وبالذات من الرئيس رجب طيب أردوغان.
فهم يرون في الحزب إخلالاً بالمفهوم الديمقراطي، وأن الميول الإسلامية للحزب لم تصمد ديمقراطيا، مع ملاحظة تهميش الموقف الغربي السلبي من التجربة الديمقراطية التركية الذي حاصر تركيا في بعض القضايا، وحفزّ الصراع القومي داخلها، وآثار ذلك على التجربة التركية، وهي مسألة غابت كليا عن فكرة نقد مشروع الرئيس أردوغان.
المسألة الثانية هي تأثير احتكاك قضايا المسلمين -من مواطني أوروبا أو المقيمين فيها- على خريطة البحث العلمي، فاندفعت قضية اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، وقضية د. طارق رمضان المفكر التنويري الإسلامي في الغرب، دون أي استدعاء منهجي لها لكونها لم تكن ضمن محاور البحث.
ولكنها كانت مؤشرا مهما، حيث تعتبر شريحة واسعة -بل أغلبية ساحقة- من الرواق الإعلامي والثقافي الفرنسي، حسب تقدير الزملاء الباحثين؛ أن فكر طارق رمضان يمثل دائرة تحدٍّ لفكرة الجمهورية العلمانية الصارمة، وهي تستفز كثيرين بمن فيهم بعض الحضور، دون أن يكون هذا الاحتجاج على رمضان -حسب فهمي- منظّما في إطار فكري دستوري أو فلسفي، يُثبت فشل رمضان في تبنيه المشروع الديمقراطي عبر قاعدة تفكيره الإسلامي.
ولذلك أكد بعض زملاء الحوار أن قضية رمضان لا تمثل احتجاجاً عادلاً، بل هي نوع من الغيرة في الشارع الثقافي والسياسي الفرنسي من قوة طرح رمضان. وهذا الشارع قلق من استدعاء أي فكرة دينية قيمية لتكون شريكة حوار ثقافي حتى ولو لم يفهمها، ولا يقبل أن يُعرض هذا الطرح على طاولة البحث الفلسفي والاجتماعي المفضي للإقرار الدستوري للمواطنة.
وهذا الموقف الاحتجاجي على د. طارق رمضان أحد محفزاته اعتبار أن فكرة الجمهورية العلمانية -التي ولّدها الكفاح الديمقراطي والتنوير الفرنسي- لا يُمكن أن تَقبل أي قيم من خلفية دينية، حتى ولو انتصرت للحقوق الديمقراطية وعززت الأبعاد الإنسانية.
4- المسألة الأخرى هي بروز فكرة الحقوق في قضايا الحريات الشخصية غير المتفق عليها، كقضية المثليين مثلاً أو بعض حريات السلوك الشخصي، الذي ربما أُخذت فكرته لدى الباحث الفرنسي الشاب من اقتران نموذج استخدام الاستبداد لدعم وعاظ دين رسميين لفرضها، وهي لا تتفق بالضرورة -على الأقل في بعضها- مع الفكر الإسلامي الحر المحاصر.
5- هذه الأبعاد في قضايا الدفاع عن حريات السلوك الشخصي، والتعبير ضد الدين كدين إسلامي، تحجب مفهوم كفاح فكر التنوير والنهضة الإسلامي، لقيام نظام دستوري يعتمد الديمقراطية -بتأصيل المقاصد الإسلامية- لتكون مخرجا لشعوب الشرق، يحقق بها توازنا حقوقيا لجميع أطيافه، ومضبطات أخلاق قانونية يتفق عليها الجميع، وتؤسس لهم حياة سياسية واجتماعية واقتصادية حرة وكريمة، وإن اختلفوا في بعض بنود الدستور.
هذا المفهوم الدستوري الفلسفي في فهم واقع العالم العربي، ومفاهيم الفكر الإسلامي الجديد، ربما لا حضور له في ذهنية الباحث الفرنسي الجديد، باستثناء قلةٍ منهم ستيفان لاكروا وفرانسوا بورغا، ولقد تأكدت من هذه الرؤية بعد ذلك في حوارات ثنائية.
6- حسب فهمي لحديث حلقة الحوار؛ فإن هناك تأثيرا كبيرا للتدافع السياسي بين حقوق المواطنين المسلمين في فرنسا، والفرنسيين الغربيين ببعدهم اليميني واليساري، وازدواجيته مع الروح الكنسية القديمة، التي لم تَسقط كليا من الوجدان الاجتماعي الشعبي، وتشهد عودة في بعض الجوانب.
ويقابلها تحفّز لأنصار الجمهورية العلمانية الحادة، وهو مسار يؤثر كثيراً على نضج الأفكار حول المشتركات القيمية بين اليسار الغربي والإسلام، وأظنه تأثيرا سلبيا على الأقل في بدايته، خاصة أن الجميع في هذه الحلقة أكد حضور هذا القلق، ومن الصعب تحقيق تصور إيجابي عن هذه المشتركات، في ظل استدعاء هذا الصراع الديمغرافي مع المسلمين الفرنسيين.
وهو الرأي ذاته الذي وجدته عند باحثين مسلمين فرنسيين، لكن كلا الفريقين -أقصد اليسار الفرنسي والباحثين الإسلاميين الفرنسيين- يؤمن بضرورة البحث عن معادلة شراكة وضمانة للحقوق الدستورية، وعدم التعدي على المواطنة في فرنسا أيا كان انتماء صاحبها الديني والعرقي.
7- خلال كل جولة وحديث عقدته في فرنسا مع الباحثين؛ كان يتكرر ذكر اسميْ د. فرانسوا بورغا الباحث الفرنسي المنصف لقضايا المسلمين، ود. آلان غريش، وأضيف إليهما هنا د. ستيفان لاكروا، بحيث تشعر بأن ليس هناك من شخصيات قادرة على فهم هذا الطرح الفلسفي القيمي سوى تلك الشخصيات.
ود. آلان غريش المناصر الصلب للقضية الفلسطينية -وهي المفصل المهم الذي يجمعنا مع اليسار الفرنسي- برز في حديثه الشعور بالمرارة من واقع ما يتعرض له الباحثون المستقلون، الذين يقدمون الرؤية الأخرى عن قضايا العرب، ويتعرضون لحصار شديد داخل أوروبا، دون دعم ثقافي من الجانب العربي يعضد أفكار الاعتدال لديهم أمام التطرف في الجانب الغربي.
وهي قضية مهمة جدا أكدها لي أكثر من باحث، فما يجري من تحالف يقوم على مصالح نفعية بين الاستبداد العربي وخزينته النفطية وبين مراكز ومواقع وشخصيات بحثية؛ يعزز حصار الفكر الحر بين العرب والغرب وخاصة في البعد الإسلامي، لفقدان الدعم والإمكانيات المادية والتغطيات الإعلامية أمام التحالف الرأسمالي.
وهو ما أضعف فرص الحوار وقلّص طرح الأفكار الجديدة، وجعل إمكانيات منصات الحوار المستقل قليلة وربما منعدمة، وحقق بالفعل تطبيعاً ثقافيا بين الاستبداد العربي والفكر الجمهوري الفرنسي، على الأقل في بعض المؤسسات والمشاهد الإعلامية المهمة.
وهنا يثار السؤال الكبير أمام المثقف الفرنسي والعربي: هل موقف المفكر الحقوقي والباحث الفلسفي عن النهضة ومشتركات القيم الإنسانية من تأميم الرأسمالية العالمية لأفكار الاعتدال والنهضة، هو التسليم بما يقدمه تحالف المال والاستبداد بديلاً لرؤية العدالة الاجتماعية العالمية؟
إنه سؤال مهم، والإجابة عليه ليست حصرا لدى كاتب المقال. وتبقى لنا جولة فكرية في المقال القادم نختتم بها الرحلة الباريسية، بعون الله.
——-
المصدر: الجزيرة