كنت حينها أدرس في المرحلة الإعدادية، عندما دخلت على أمي، والدموع تنهمر على وجنتيها، فسارعت إلى السؤال عن سبب بكائها، فأجابت في أسى: “أعدموا مندريس يا ولدي!”.
بهذه العبارات سرد المسن التركي، سعد الدين بيرام (71 عاماً)، أولى ذكرياته عن أول الانقلابات التي شهدتها الجمهورية التركية في ستينيات القرن العشرين، فيما عُرف لاحقا بواقعة “إعدام الديمقراطية”.
بدأت القصة صباح 27 مايو 1960، حين استيقظت تركيا على خيانة مجموعة من ضباط الجيش.
سيطر هؤلاء الضباط على الحكم بالقوة، واعتقلوا رئيس الوزراء عدنان مندريس (1950 – 1960)، ورئيس الجمهورية، جلال بايار، وغالبية أعضاء “الحزب الديمقراطي” الحاكم، وكبار المسؤولين في الدولة.
تشويه وإهانات
ما حدث في ذلك اليوم يتذكره بيرام بقوله لـ”الأناضول”: “كنت أرعى الأغنام في قريتي بولاية بيلاجيك (شمال غرب)، لم تكن تصل الجرائد إلى قريتنا، لكن كنا نحصل عليها من حافلات الركاب المارة على الطريق بين أنقرة وإسطنبول.
ويضيف: “عقب الانقلاب، جرت حملات فصل وتغيير لكل المسؤولين في قريتي، ومنهم: عمدة القرية، ورئيس البلدية، وكبار الموظفين الحكوميين، وحتى المدرسين، وتم إحلال عناصر مما عُرفت بلجنة الاتحاد الوطني (تابعة للانقلاب) بدلا منهم”.
ويشير إلى أن “الانقلابيين سعوا عبر حملات دعائية واسعة إلى النيل من مندريس وأعضاء حزبه، وبث الأكاذيب عن أعماله وإنجازاته، لزعزعة الحب والاحترام الذي يكنه الشعب له”.
ويزيد بيرام: “وصل الأمر لدرجة أن عمدة قريتنا زار المقهى في أحد الأيام، وزعم أن مندريس كان يضع القرآن الكريم داخل حذائه، وأحياناً يدوس على القرآن بحذائه، لكننا لم نصدقه أبداً، وعرفنا لاحقاً أن تعليمات خاصة كانت تصله للتصرف بهذا الشكل”.
ويوضح أن “مندريس وأعضاء حزبه تعرضوا، خلال المحاكمات الصورية التي خضعوا لها، إلى إهانات كثيرة.. كنا نسمع عبر أثير الإذاعة هيئة المحكمة وهي تخاطبهم باستحقار، مستخدمة ألفاظاً غير لائقة”.
ويتابع إلى أنه كانت تعلق في ساحات القرية صور لمندريس، وبايار خلال المحاكمات، ومكتوب أسفها عبارة “خونة الوطن”.
ويلفت بيرام إلى أن “حكومة الانقلاب أعلنت يوم 27 مايو من كل عام، عيداً للحرية والدستور، وكانت تطلق فعاليات احتفالية، لكن الشعب لم يهتم بذلك أبداً، ولم يعتبر هذا اليوم عيداً على الإطلاق”.
محاولة 2016
بعد 56 عاماً من ذلك الانقلاب حاول البعض، في عام 2016، الانقلاب على حكومة منتخبة، لكن الشعب التركي نزل إلى الشوارع، وتصدى للدبابات، وأفشل المحاولة الانقلابية.
وهو ما يتحدث عنه المسن التركي بفخر: “الشعب التركي نضج كثيراً في نهج الديمقراطية، ورد فعله تجاه انقلاب 15 يوليو 2016 دليل واضح على ذلك”.
ويضيف: “رأينا في 15 يوليو مدى الأهمية التي يوليها شعبنا للحرية وإرادته الحرة، لكن الشعب التركي لم يظهر هذه الفراسة تجاه انقلاب 27 مايو (1960)، فقد خاف وخضع”.
وفي 17 سبتمبر 1960، أعدم الانقلابيون مندريس، وقبلها بيوم واحد أعدموا وزير خارجيته، فاتح رشدي زورلو، ووزير المالية، حسن بولات قان.
ومندريس هو رئيس أول حكومة محافظة في تركيا، وتولى رئاسة الوزراء بين عامي 1950 و1960، ومن أبرز إنجازاته: رفع حظر رفع الأذان باللغة العربية، بعد أن كان يرفع بالتركية، اعتبارًا من 1932.
وفي عهد حكومة مندريس، أُعيدت طباعة صور أول رئيس للجمهورية التركية، مصطفى كمال أتاتورك، على العملات، بعدما كانت تطبع صور الرئيس الموجود في الحكم.
كما نفذ مندريس حملة تنمية، شملت تطوير الزراعة، وافتتاح مصانع، وتشييد طرقات وجسور ومدارس وجامعات.
وقد كان مندريس نائباً برلمانياً عن حزب الشعب الجمهوري، الذي أسسه أتاتورك.
لكنه انفصل عن الحزب، عام 1945، مع ثلاثة نواب آخرين، وشكلوا حزباً جديداً باسم “الحزب الديمقراطي”.
وفي العام التالي، شارك الحزب الجديد في الانتخابات البرلمانية، وحصد 62 مقعداً، ثم شارك في انتخابات 1950، ففاز بأغلبية ساحقة شكل على إثرها مندريس الحكومة، التي جرى الانقلاب عليها.