حكمت المحكمة بالإعدام شنقاً على أربعة من أهالي دنشواي، وبالسجن والجلد على ما يقرب من عشرين.
وحكم الشعب على القضاة بالذل والعار، وتم مطاردتهم بسبة في جبينهم لا يمحوها الزمن.
قصة وعبرة تحمل في طياتها وعي الشعب في مواجهة الظلم، فلنتتبع القصة.
رئيس المحكمة بطرس باشا غالي، وعضو المحكمة التي كتب حيثيات الحكم أحمد فتحي زغلول، وممثل الادعاء إبراهيم بك هلباوي.
سيق للمحكمة ما يقرب من خمسين من أهالي القرية مقرنين في الأصفاد تتراوح أعمارهم من الخامسة عشرة حتى الخامسة والسبعين.
ووقف ممثل الادعاء يطلب أقصى العقوبة على الفلاحين البسطاء الذين تجرؤوا ودافعوا عن ممتلكاتهم من عبث جنود الاحتلال الذين أرادوا أن يتسلوا بالصيد، فتعدوا على أبراج الحمام في القرية، وأصابت رصاصاتهم بعض الأهالي وأحرقت النار بالجرن (مكان درس الحبوب وتخزينها).
وجه إبراهيم الهلباوي لرجل تجاوز الخامسة والسبعين عاماً (حسن محفوظ) –أحد الذين تم إعدامهم– أصابع الاتهام قائلاً: إن حسن محفوظ أقام الفتنة النائمة؛ فكدر جو أمة بأسرها؛ لأنه مضى علينا 25 عاماً ونحن مع المحتلين في إخلاص واستقامة وأمانة، أساء إلينا وإلى كل مصري، فاعتبروا صوتي صوت كل مصري حكيم وعاقل يعرف مستقبل أمته وبلاده!
وكالمعتاد صاحَبَ هذه المحكمة حملة دعاية وظفت فيها الحكومة والاحتلال الجرائد لتضليل الرأي العام، فذكرت جريدة “المقطم” المصرية أن الحريق الذي شب في الجرن ليس بسبب شرار بنادق جنود الاحتلال، ولكن لما استفحل الأمر بين الأهالي وجنود الاحتلال، أضرم الأهالي النار في الجرن حتى يتهموا جنود الاحتلال!
وأكثر من ذلك؛ ذكرت أن القتيل الذي قتله جنود الاحتلال، وجِدَ مقتولاً بضربة فأس من أحد الأهالي (يعني الأهالي يحرقون محصولهم، ويقتل بعضهم بعضاً).
هذا بخلاف ما ذكره الهلباوي في مرافعته من وصول بعض أعيان المنوفية –الإقطاعيين ذوي المصالح مع الحكومة– إلى ساحة المحكمة خجلين من هذه الحادثة ليثبتوا أنهم أبرياء من التهمة.
هكذا كانت الحكومة وقضاة المحكمة والمدعي العام وصحافة الحكومة، والأعيان المرتبطون بها، جميعهم شركاء في الجريمة.
ولكن الشعب قال كلمته، وأصدر حكمه، وحدد مصير المجرمين الفعليين في حق الوطن.
بطرس غالي اغتيل عام 1910 وكان وزيراً للحقانية.
أحمد فتحي زغلول تم ترقيته بعد عام ليصبح وكيل وزارة الحقانية، وتم عمل حفل تكريم له من بعض أتباعه المنتفعين في فندق “شبرد”، وطلب مريدوه من الشاعر أحمد شوقي أن يشاركهم بقصيدة، فأرسل لهم مظروفاً مغلقاً، وفتحت لجنة الاحتفال المظروف فوجدت فيه:
إذا جمعتم أمركم وهممتو *** بتقديم شيء للوكيل ثمين
خذوا حبال مشنوق بغير جريرة *** وسروال مجلود وقيد سجين
ولا تعرضوا شعري عليه فحسبه *** من الشعر حكمٌ خطه بيمين
ولا تقرؤوه في شبرد بل فاقرؤوا *** على ملأٍ في دنشواي حزين
ومات عام 1914 ولم يجسر أحد على الإشارة إلى ذكراه، بل كان البعض يُعير به أخاه زعيم الأمة سعد زغلول.
أما إبراهيم الهلباوي فقد لفظه المجتمع، وتجنبه الناس، وصار كالجمل الأجرب وسط الأصحاء.
ذكرت مجلة “المجلات العربية” عدد فبراير 1908 أن الهلباوي استقل باخرة إلى أوروبا، وكان أحد أمراء مصر على الباخرة، فسألته حاشيته عمن يريد أن يكون معه على مائدة طعامه، فأجاب: كل مصري على الباخرة ما عدا المدعو الهلباوي.
وأوردت المجلة أن سعادة حسين رشدي باشا لما عُيِن مديراً للأوقاف أراد لضرورة العمل أن يذهب لبيت الهلباوي، فلما علم سائق عربته صاح قائلاً: “هي حصلت تروح لبيت الهلباوي.. أنا ما أروحشي يا سيدي لو قطعت راسي!”.
ولكن الباشا كلفه بالذهاب رغماً عنه، فلما قابل الباشا الهلباوي، مد الهلباوي يده للمصافحة، فقال له الباشا: “جئتك في عمل مصلحي، وما جئت لأسلم عليك، ولا أقبل أن أكون أقل إحساساً من سائق العربة الذي امتنع عن الحضور إلى منزلك”!
وعاش الهلباوي إلى ما بعد الثمانين وتوفي عام 1940 حاول خلالها أن يمحو هذه السُبَّة من جبينه، وحاول جاهداً في مذكراته التي كتبها أن يجد لنفسه عذراً، ولكن خطيئته لا يمحوها الزمن، وقد خلدها شاعر النيل حافظ إبراهيم بقوله:
أَيُّها المُدَّعي العُمومِيُّ مَهلاً *** بَعضَ هَذا فَقَد بَلَغتَ المُرادا
قَد ضَمِنّا لَكَ القَضاءَ بِمِصرٍ *** وَضَمِنّا لِنَجلِكَ الإِسعادا
فَإِذا ما جَلَستَ لِلحُكمِ فَاِذكُر *** عَهدَ مِصرٍ فَقَد شَفَيتَ الفُؤادا
لا جَرى النيلُ في نَواحيكِ يا مِصرُ *** وَلا جادَكِ الحَيا حَيثُ جادا
أَنتِ أَنبَتِّ ذَلِكَ النَبتَ يا مِصرُ *** فَأَضحى عَلَيكِ شَوكاً قَتادا
أَنتِ أَنبَتِّ ناعِقاً قامَ بِالأَمسِ *** فَأَدمى القُلوبَ وَالأَكبادا
إيهِ يا مِدرَةَ القَضاءِ وَيا مَن ** سادَ في غَفلَةِ الزَمانِ وَشادا
أَنتَ جَلّادُنا فَلا تَنسَ أَنّا ** قَد لَبِسنا عَلى يَدَيكَ الحِدادا
هذه صفحة من تاريخ مصر، لا نستطيع أن نقول: طواها الزمن، فما زالت فصولها تتكرر بصور متجددة، وممثلوها علي مسرح الأحداث ما زالوا يتخذون نفس مواضعهم.
وكأن الناس لا يتعلمون ولا يعتبرون، ولكن: لعلها تجد من يعتبر، ويستعد بجواب يوم يقف بين يدي الله: “وقفوهم إنهم مسؤولون”.