– ولد الشيباني: مديونية موريتانيا وصلت إلى مستوى لم يعد متحملاً
– ولد إنفع: المطالبة بإلغاء الديون تأتي في ظل الأزمة الصحية– الاقتصادية
– ولد الخراشي: إعفاء الديون الخارجية يتطلب تنازلات سيادية
تعاني موريتانيا منذ عقود من معضلة الديون الخارجية التي أصبحت تخنق الاقتصاد الموريتاني وتلْتَهم ما يقارب 18% من ميزانية الدولة، ويبدو أن قلق الحكومة الموريتانية من انعكاسات الديون الخارجية على اقتصاد البلاد بدأ يرتفع مجدداً بسبب انتشار جائحة كورونا “كوفيد – 19” التي ألقت بظلالها على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، الأمر الذي دفع موريتانيا إلى المطالبة بإلغاء ديونها الخارجية التي وصفتها بأنها “صعبة التَّحمُّل” خاصة في ظل هذا الوباء الذي يجتاح العالم.
والمتتبّع لمسارات ديون موريتانيا الخارجية يلاحظ أنها تشكل لغزاً حقيقياً في جوانبها المختلفة بما في ذلك المبلغ الإجمالي الدقيق لهذه الديون، فالواضح أن مشكلة موريتانيا مع الديون الخارجية ليست جديدة بل تعود لفترة السبعينيات، حيث دخلت الدولة الموريتانية حديثة النشأة -حينها- في أزمة صعبة كانت لدولة الكويت اليد الطُّولى في حلِّها، ومع ذلك لا تزال أزمة ديون موريتانيا الخارجية تتفاقم يوماً بعد يوم، ومن المتوقع أن يساهم فيروس كورونا في ارتفاع منحنى هذا التفاقم، ما قد يتسبب في انكماش اقتصاد البلاد الذي يعاني من أزمات ليست بالجديدة.
ديون خارجية “صعبة التَّحمُّل“
في بيان صادر عن وزارة الشؤون الاقتصادية وترقية القطاعات الإنتاجية، الثلاثاء الماضي، طالبت موريتانيا بإلغاء ديونها الخارجية لأنها “أصبحت صعبة التَّحمُّل بفعل جائحة “كوفيد 19” وانعكاساتها الاقتصادية على الدول ذات الدخل المحدود”، وقالت موريتانيا: إنها تسعى إلى القيام بإعادة هيكلة شاملة وطموحة لمديونيتها العمومية الخارجية، موضحة أنها قامت بتفويض تجمع “فرانكلين – فينكسيم” لتقديم الاستشارة والدعم لإعادة هيكلة الديون الخارجية، نظراً للخبرة القانونية والمالية التي يتمتع بها، ومعرفته العميقة بموريتانيا، وتجربته في مباشرة عمليات إعادة هيكلة كان لها انعكاس اقتصادي واجتماعي مشهود.
ومن المهم التذكير هنا بأن هذه ليست المرة الأولى التي تطالب فيها موريتانيا بإلغاء ديونها الخارجية، بل سبق وأن طالبت بذلك، كما طالبت قبل أشهر بشطب ديون القارة الأفريقية وأصدرت بياناً بهذا الخصوص قالت فيه: إنه “لا غنى عن شطب مديونية القارة الأفريقية لتكون في مستوى مجابهة الوباء وتبعاته الاجتماعية والاقتصادية”، وفي عام 2006، استفادت موريتانيا من إعفاء للديون من طرف البنك الأفريقي للتنمية بقيمة 200 مليون دولار، لكن إجمالي ديونها الخارجية حالياً يتجاوز عتبة (5 مليارات دولار) في نظر البعض وقد يصل إلى أكثر من ذلك بكثير في نظر آخرين، فالمبلغ الإجمالي الدقيق لهذه الديون مختلف فيه ويشكل لغزاً حقيقياً، لكن المؤكد أن أزمة هذه “الديون النائمة” تتفاقم يوماً بعد يوم، حيث تشير بعض المصادر إلى أن إجمالي ديون موريتانيا كان يبلغ عام 2008 حوالي ملياري دولار، ثم ارتفع عام 2013 إلى 3 مليارات دولار، ثم ارتفع عام 2018 ليبلغ أكثر من 5 مليارات دولار، وتعتبر ديون دولة الكويت من أبرز وأقدم الديون المستحقة على موريتانيا.
انكماش الاقتصاد والْتهام الميزانية
وتعليقاً على مطالبة موريتانيا بإلغاء الديون الخارجية، قال د. الصوفي ولد الشيباني، أستاذ مادة الاقتصاد بجامعة نواكشوط، في تصريح لـ”المجتمع”: إن المديونية الخارجية لموريتانيا نمت خلال السنوات الأخيرة حتى وصلت لمستويات مرتفعة جداً، حيث اقتربت من 90% من الناتج المحلي الإجمالي، وأصبحت مدفوعات الأقساط والفوائد تلتهم ما يقارب 18% من موارد الميزانية العامة للدولة، ومع الوقت تنقضي فترات السماح لبعض الديون لتبدأ عملية سداد مستحقاتها مع ما يترتب على ذلك من أعباء مالية إضافية، ومع ذلك لم تتوقف الدولة عن الاستدانة بمعدلات كبيرة.
وأضاف الشيباني أن هذه الوضعية أفضت إلى مرحلة وصلت فيها المديونية لمستوى لم يعد متحملاً خاصة مع التداعيات السلبية لجائحة كورونا، ما دفع الحكومة إلى اللجوء إلى طلب جدولة ديونها الخارجية وهي ليست المرة الأولى طبعاً، فقد طالب الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني منذ بداية الجائحة بإلغاء ديون موريتانيا ومثيلاتها من الدول التي تعيش ظروفاً اقتصادية صعبة، وهو التوجه الأكثر جدوائية في مثل هذه الأوضاع رغم أن دعوته لم تلق بعد آذاناً صاغية.
من جانبه، قال الباحث الاقتصادي إمّم ولد إنفع، في تصريح لـ”المجتمع”: إن مطالبة موريتانيا بإلغاء الديون تأتي في ظل الأزمة الصحية- الاقتصادية الحالية التي من المتوقع أن تتسبب للاقتصاد الموريتاني في انكماش بنسبة 3.2% قد يكون هو الأعمق له طيلة العقود الماضية بعدما كانت توقعات النمو للعام الحالي في حدود 6%، وهو ما قد يضاعف من اختلالات الاقتصاد الموريتاني القائمة أصلاً، كما تأتي المطالبة بإلغاء الديون في ظل قرب انتهاء برنامج إصلاح اقتصادي ومالي موقع مع صندوق النقد الدولي للفترة ما بين 2017-2020 كان الهدف الرئيس منه من بين أمور أخرى تخفيف المديونية، وتم بالفعل قطع خطوات مهمة في ذلك الاتجاه قبل أن تظهر الجائحة وتذهب بأهداف البرنامج المذكور إلى مهب الريح.
إعفاء الديون والتنازلات السيادية
يرى بعض الاقتصاديين أن إعفاء الديون عن الدول قد يحل المشكلات في بادئ الأمر، لكنه سيؤدي إلى ظهور مشكلات جديدة، وسيجعل الدول المعفاة من السداد تدفع ثمناً اقتصادياً واجتماعياً باهظاً مقابل ذلك، ويعتبر وزير المالية بجمهورية بنين من أكثر المعارضين لتخفيف ديون الدول الأفريقية بحجة الوباء.
وفي هذا السياق، قال د. يربانا ولد الخراشي، باحث موريتاني في مجال الاقتصاد: إن إعفاء الديون يتطلب تنازلات سيادية، وخاصة عن الأصول الإستراتيجية، وربما تنازلات تعليمية حتى لا أقول عقائدية كبيرة، وكذلك شروطاً اقتصادية وتنموية خاصة محكم فيها، وهو ما يعني حل المشكلات الحالية بخلق ووضع مشكلات جديدة بدلها أكثر تعقيداً وخطورة.
بدوره، قال الشيباني: إن إعادة جدولة ديون موريتانيا سيكون لها ثمن اقتصادي واجتماعي في المدى القريب وفي المدى المتوسط، إذ ستؤدي إلى تراكم أعباء المديونية رغم أنها توفر موارد يمكن توظيفها لتحسين الأوضاع، لكن التجارب السابقة ليست مشجعة نظراً لانتشار الفساد وضعف القدرات في مجال اختيار وتخطيط وتنفيذ المشاريع العمومية.
وفي مقال بعنوان “الديون والآفاق المبشرة”، يرى الكاتب محمد ولد المنى أن إعلان موريتانيا عجزها عن سداد الديون الخارجية لا يخلو من احتمالين: الأول أن يكون العجز حقيقياً فعلاً، وهنا ينبغي وضع الشعب في الصورة الكاملة، أما الثاني فهو أن يكون العجز غير حقيقي بل مجرد إحراج للدائنين والضغط عليهم من أجل تقديم تنازلات، ويؤكد الكاتب أن هذا الاحتمال -إن صح- سيضر بمصداقية موريتانيا الخارجية والسياسية والمالية، وسيصعّب على البلاد الحصول على أيّ عمليات في مجال الإقراض والتمويل والاستثمار.
تراكم الديون وتطوير الموارد
منذ فترة زمنية وديون موريتانيا الخارجية في تفاقم مستمر ملحوظ، ويعتبر البعض أن تفاقم هذه الديون يرجع إلى جملة أسباب، منها: عدم الاستفادة من الموارد الطبيعية بشكل كافٍ، وضعف الإدارة وانتشار الفساد، وغياب الشفافية والتسيير الجيد للقروض، حيث يبدو أن الدولة الموريتانية لم تنجح بعدُ في استثمار الديون الخارجية في مشاريع تعود بالنفع على اقتصاد البلاد، وبعد فترة تحتاج إلى ديون جديدة ومع الوقت تتراكم الديون وتصبح الدولة عاجزة عن السداد مجدداً.
ويرى البعض أن هذه الأسباب وغيرها كانت وراء استثناء صندوق النقد الدولي لموريتانيا في عام 2005 من قرار شطب ديون مستحقة على مجموعة من الدول الأكثر فقراً تتجاوز قيمتها 3 مليارات دولار، ووقتها قال وزير الخارجية الموريتاني: إن استثناء صندوق النقد الدولي لموريتانيا من تلك الدول الـ20 يعود إلى انعدام الثقة بين موريتانيا وبعض المؤسسات النقدية الدولية، في حين قال وزير المالية الموريتاني حينها: إن قرار صندوق النقد الدولي كان إيجابياً وأحسن لموريتانيا.
وفي مقال منشور على موقع مدونات البنك الدولي بتاريخ 08/ 26/ 2020، أكد الكاتبان “Laurent Msellati” و”Samer Matta” أن ثمة أربعة مجالات على صعيد السياسات الاقتصادية من شأنها مساعدة موريتانيا على الاستفادة من المنافع المحتملة للتوسع المدني وتعزيز تنويع النشاط الاقتصادي في المستقبل، وهي: تشجيع إقامة اقتصاد أكثر توجهاً نحو السوق، وتعزيز عوامل الإنتاج، وتحسين التخطيط المدني، وتحسين إدارة الموارد الطبيعية.
أين ذهبت ديون موريتانيا؟
منذ سنوات طويلة يشغل هذا السؤال الكبير بال الكثير من الموريتانيين والاقتصاديين والدائنين أيضاً ويبحث الجميع عن إجابة شافية لهذا السؤال الأساسي، وقد تم طرح هذا السؤال مجدداً عندما طالبت موريتانيا بإلغاء الديون الخارجية المستحقة عليها، حيث تساءل بعض الموريتانيين عن الهدف من هذه المطالبة؟ وهل تم التشاور مع أهل الخبرة المخلصين بخصوصها؟ فيما تساءل آخرون: أين ذهبت الديون التي أخذتها موريتانيا؟ هل تم استثمارها بطريقة تفيد الوطن والمواطن؟ أم تم تبديدها في بناء القصور والفلل وتحقيق أغراض شخصية لشخصيات محددة؟
وفي الأخير ومهما كانت الإجابة، يبقى هناك سؤال آخر مهم وهو: هل ستقوم موريتانيا بتطوير مواردها الطبيعية والاستفادة من ثرواتها الهائلة للخروج من نفق الديون الخارجية المظلم؟ أم أنها ستلجأ من جديد إلى سيناريو الديون الخارجية المكلف مالياً ودبلوماسياً وسياسياً واجتماعياً؟