تفقد الأمة العربية الإسلامية بالوفاة فترة زمنية بعد أخرى عالمًا وداعية مميزًا أو مفكرًا كبيرًا ندر أن يأتي الزمان بمثليهما؛ ورغم قلة وجود العالم الداعية والمفكر ذي الإنتاج المكثف في أغلب دول “الربيع العربي”، فإننا لا نكاد نجد دورًا عمليًا لكليهما في الأزمات والمُلمات الخطيرة التي تعصف بثلاثة من أبرز بلدان أوطاننا؛ سورية، ومصر، واليمن؛ مما يجعلنا نتساءل في مرارة كبرى عن أسباب قصور هؤلاء عن المعالجة الفعلية لأدواء ومصائب مساقط رؤوسهم وأوطانهم، على أن ذلك لا ينفي أننا حتى وقت ليس بعيدًا كنا نجد الداعية القدوة والمفكر الواعي المدرك لطبيعة وجوده ودوره الديني قبل الخلقي في معالجة أمراض مجتمعه من مثل شيخ الأزهر الواعي جاد الحق علي جاد الحق الذي وقف في وجه أي محاولة لتحليل ما حرمه الله سواء في مؤتمرات عالمية أقيمت في حياته بمصر، ومحاولة الحض على تغريب المجتمع بإباحة ما حرم الله من علاقات اجتماعية، أو تبرير فوائد البنوك الربوية حتى لو طلب الأمر الأخير الرئيس الراحل المخلوع حسني مبارك نفسه، حتى لقي الله تعالى في 15 مارس 1996م غير مبدل ولا محرف، وكان عمره آنذاك يقارب الثمانين عامًا.
وأيضًا حرص الراحل الأكاديمي عبدالوهاب المسيري حتى نهايات أيامه وأخريات حياته على الجهر بقول كلمة الحق في وجه النظام نفسه، ولم يكتف بإنتاجه الفكري الذي يعرفه الغرب قبل بلاد المسلمين، بل فضل أن يكون المثقف الواعي والمفكر الشريف الذي يترجم عمله ويوافق قوله ويترجمه عملًا لا مجرد إطار نظري شفاهي أو حتى مكتوب؛ ورغم إصابته يرحمه الله في الفترة الأخيرة من حياته بأحد أكثر الأمراض إيلامًا واستعصى على الشفاء، فإنه انضم لحركة “كفاية” المطالبة برحيل مبارك في أوج وقمة جبروت وقسوة نظام الأخير؛ مما جر على المسيري المزيد من المشكلات والمعاناة حتى لقي الله تعالى في 3 يوليو 2008م عن عمر يقارب السبعين عامًا، ضاربًا المثل في كيف يكون الرجال عظماء في حياتهم الشخصية مهما كلفهم ذلك من معاناة مثلما هم عظام في تنظيرهم وكتاباتهم وحواراتهم!
ومع وفي قلب تراجع موجة “الربيع العربي”، تلفت أغلب بلدانه باحثة عن قامات من أمثال المسيري، وجاد الحق، ومفكرين وعلماء دين وقفوا ضد الظلم في تاريخ وطننا الإسلامي يسعون نحو حقن الدماء.
وانطلقت الآمال بالشعوب في قدرة أولاء على وقف طوفان المظالم المتوقع المقبل بلا هوادة، بل وصل الأمر بالبعض إلى حد تخيل أن أولاء قادرون على الإجارة وفض الاشتباك وسيل الدماء وطوفانها المرتقب؛ ولكننا يومًا بعد آخر صرنا نترقب ابتعاد حتى الأمل في الدور الذي كان مرتقبًا ومنتظرًا من علماء دين كبار ومفكرين من ذوي القامة؛ وإن وجدنا البعض يبوح برأيه نظريًا وربما على استحياء في الوقائع الدامية، فيما اكتفى البعض الآخر بالكلمات ذات الترميز العالي أو التي تشي وتعبر عن معنى يفهمه كلُّ جانب على أنه يحمل سياقًا موافقًا لرأيه وموقفه، ولو أن قامات علمية دعوية ذات قيمة كبرى وتفكيرية ذات مكانة اجتمعت وتوافقت على رأي واحد وخرجت به إلى العلن في الوقت المناسب لكانت قد نجحت في أداء دور خطير تمناه منها مخلصون وشرفاء كثيرون على امتداد دولهم والوطن الإسلامي، لكن ما حدث على أرض الواقع أن البعض ممن حاولوا أن يقوموا بدور فعال لم يكونوا مجتمعين أو متحدين في مجهوداتهم، ولذلك لم تسفر أو تثمر عن دور، بل كانت المفاجأة أن جانبًا منهم وقف إلى جانب أنظمة انقلبت على الثورة وأذاقت الثوار صنوف الهوان، ونجح البعض في لي عنق وتفريغ نصوص شريعة حكيمة من معناها واستخدامها لنصرة آراء تعزز مواقف الطغاة بدلًا من الوقوف أمامهم والتصدي لهم؛ فيما اكتفى مفكرون بإيثار وتفضيل الصمت على ما عداه وربما ظنوا أنهم بمنجى من عواقب نيران الطغاة وأفعالهم، فكان أن تم منع البعض من الحديث أو الكتابة بشكل علني، فيما استمر صمت آخرين لعلة وحكمة لعلها غير واضحة.
في المقابل، نجح بعض الدعاة والمفكرين في مغادرة أغلب أوطان “الربيع العربي” مع عشرات الآلاف الآخرين من الكفاءات في مختلف المهن والمجالات؛ مما أدى إلى إعمال تلك الأنظمة لمعاول التشكيك في مصداقيتهم جميعًا ووصمهم بتهم هم براء منها، ولكنهم في النهاية آثروا قول الحق ودفع ثمن الغربة وأحيانًا قسوة المنافي والتشرد، لكنهم لم يعودوا أصحاب دور ولو محتمل في حل عاجل يحل بأوطانهم ويخلصهم أو يحول بينها وبين استمرار حكم الطغاة، اللهم إلا البناء على مستوى زمني بعيد وممتد في منظومتي الشرف والوعي!
إننا نتألم ونحزن لرحيل قامة دعوية أو فكرية كبرى من أغلب دول “الربيع العربي” لافتقاد عالم أو مفكر كان نافعًا بعلمه ولو كان قاصرًا أو مقيدًا على مدار سنوات تقارب العشر مضت؛ كما نحزن ونتألم بشدة لأن دور أولاء الذين يموتون منفردين كان من الممكن أن يكون خطيرًا نافعًا لو اجتمعوا على معاداة الطغاة وأفعالهم ومناصرة “الربيع العربي” مجتمعين.
نسأل الله تعالى السلامة لبلدان وطننا العربي الإسلامي، وأن ينفعنا فيما هو مقبل بعلمائنا الدعاة ومفكرينا المنظرين، وأن يبارك في مجهوداتهم ويجعلها نافعة نظريًا وعمليًا.