دراسة سير القادة المسلمين تساهم في تطوير نظريات جديدة لعلم القيادة يحتاج لها العالم في كفاحه لبناء مستقبل يقوم على مبادئ وأخلاقيات وقيم ورؤية حضارية بعد أن دفعه قادة بلا مبادئ ولا أخلاق خلال القرنين السابقين إلي البؤس والفقر والخراب الناتج عن الظلم.
ويشكل محمد الفاتح نموذجا متميزا للقيادة في التاريخ الإنساني، حيث تتميز تجربته بالثراء والتنوع في التحديات التي تحتاج إلي الإبداع في مواجهتها .
الإصلاح الداخلي أولا
توضح تجربة محمد الفاتح أهمية الإصلاح الداخلي كمقدمة ضرورية لزيادة قوة الدولة المادية والمعنوية ، أو القوة الصلبة والناعمة ، فقد أدي هذا الإصلاح إلي زيادة قدرة محمد الفاتح علي الحصول علي المال اللازم لتنظيم جيشه وامداده بالأسلحة ، وتحقيق تقدم المجتمع بإرضاء الناس وتطوير حياتهم بشكل يحقق الغني للجميع ، ولكن بدون الوصول إلي مرحلة الترف التي تثقل كاهل الإنسان ، وتؤدي إلي ترهل جسده ، وقعوده عن الجهاد .
يذلك حقق محمد الفاتح التوازن بين اشباع الاحتياجات الأساسية للإنسان التي تحفظ الكرامة والحياة ، وعدم الوصول إلي مرحلة الترف والإغراق في الشهوات والعمل للحصول علي المتع الحسية .
وشكل ذلك مصدرا لقوة الدولة في عهد محمد الفاتح ثم في عهد السلاطين العظام من بعده.. كما أدي ذلك إلي زيادة ولاء الناس للدولة التي يقودها شاب يتطلع بشكل دائم إلي تحقيق أهداف عظيمة ، ويعيش كما يعيش الناس في دولته دون بذخ أو إسراف .
وهكذا تمت ادارة عملية التغيير النفسي والمعنوي للناس في الدولة والتي مهدت لتعبئتهم للمشاركة في تحقيق الهدف العظيم.
ويوضح ذلك أهمية الرؤية الشاملة للقيادة والتكامل بين ادارة الموارد واستثمارها ، وإرضاء الناس واشباع احتياجاتهم وتعبئتهم لتحقيق الأهداف واقناعهم بأنهم شركاء في الإنجاز الذي يتحقق بجهودهم وتضحياتهم .
وهذا يمكن أن يفسر ولاء الشعب بشكل عام والجنود في الميدان بشكل خاص لمحمد الفاتح ، واطاعتهم لأوامره اختيارا وليس اجبارا وقهرا ، والتضحيات التي قدموها سواء بالعمل الشاق في الإعداد للفتح ، او بالرغبة في الاستشهاد علي أسوار القسطنطينية.
الإسلام مصدر القوة
بالرغم من أهمية تلك العوامل في تفسير انجاز محمد الفاتح وتميز قيادته وحب الشعب له إلا أنها ليست كافية ، فقد تتوفر كلها أو بعضها لقيادة لكنها لا تستطيع أن تحقق هدف عظيما ..لذلك هناك مصدر آخر لقوة القيادة ، وهو مصدر غير مادي يتجاوز الموارد وتوظيفها وادارتها .
تجربة محمد الفاتح توضح لنا هذا المصدر وهو الإسلام الذي يملأ قلوب المؤمنين شجاعة ، ويرشد أهدافهم ، فيجعل الهدف هو ارضاء الله سبحانه وتعالي .
لذلك كانت نقطة الانطلاق هي حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وبشارته بفتح القسطنطينية ، ولقد عمل الخلفاء المسلمون طوال القرون السابقة لتحقيق هذا الهدف العظيم ، وضحي الكثير من القادة في سبيله حتي أنهم فكروا في الالتفاف من الجانب الأوروبي للوصول إلي القسطنطينية.
وحديث رسول الله صلي الله عليه وسلم يحمل لمن يفتح القسطنطينية وصفا يحمل كل صفات المجد والخير والعز والرفعة .. حيث يقول الرسول صلي الله عليه وسلم ” لتفتحن القسطنطينية علي يد رجل ، فلنعم الأمير أميرها ، ولنعم الجيش ذلك الجيش ” .. وهذا الحديث يعرفه المسلمون ويحفظونه لذلك حاول معاوية بن أبي سفيان وسليمان بن عبد الملك وهارون الرشيد والسلطان بايزيد فتحها .. لكن الامبراطورية البيزنطية كانت تستخدم كل قوتها لحمايتها، فقد كان فتح المسلمين لها يعني سقوط الدولة البيزنطية كلها.
هذا الحديث كان ملهما للقيادة الإسلامية، واعتبره كل الخلفاء والقادة هدفا عظيما يستحق اعداد العدة وتوظيف الموارد وتقديم التضحيات من أجله .. وكل قائد مسلم كان يتمني أن يكون هو القائد الذي ينال مجد تحقيق الهدف العظيم .
انجاز المهمة
توضح دراسة سيرة محمد الفاتح أن هذا الهدف قد ملأ نفسه ، وامتلك قلبه، وان أباه السلطان مراد الثاني ساهم في اعداده وتأهيله حيث عهد إلي عدد من كبار العلماء بتربيته علي حب الإسلام، والعلم والعمل بالقرآن، ومعرفة الحديث الشريف والالتزام بالشريعة الإسلامية ، وحب العلم والتقي والورع .
ولقد تميز محمد الفاتح علمياً، فنهل من العلم علي يد مجموعة من الأساتذة الكبار منهم أحمد بن اسماعيل الكوراني الذي تميز بهيبة العلماء ، ويروي أنه كان يضرب محمد الفاتح في طفولته بشدة ، وحفظ القرآن الكريم علي يده.
ولقد كان مراد الثاني يقدر العلم والعلماء لكن العلماء ايضا في ذلك العصر كانوا يعتزون بعلمهم ، ويرون أنه أعلي وأهم من الحكم والسلطة ، لذلك كان العالم الكوراني يمزق أمر السلطان مراد الثاني ويبطله اذا وجد فيه ما يتعارض مع الشريعة الإسلامية ، ولذلك كان السلطان يقبل يده .
هذا العالم قام بتأهيل محمد الفاتح بحفظ القرآن وحديث رسول الله صلي الله عليه وسلم وتاريخ الدولة الإسلامية ، فوفر له المعرفة التي تشكل أساس القيادة ومصدر قوتها .
وفي الوقت نفسه قام عالم آخر هو الشيخ آق شمس الدين بإعداد محمد الفاتح ليكون قائدا عابدا لله ، وأقنعه بأنه الأمير الذي يقصده الرسول صلي الله عليه وسلم بحديثه ، وشكل ذلك الهاما لمحمد الفاتح ملأ قلبه ايمانا وحبا لرسول الله صلي الله عليه وسلم وللهدف الذي يعمل لتحقيقه إرضاء الله .
التخطيط الاستراتيجي
لكن أولئك العلماء أعدوا محمد الفاتح ليكون قائدا لأمة تتميز عن الأمم بعبادتها لله والعمل للفوز برضاه ، وهي في الوقت نفسه تنفذ أمر الله بإعداد العدة التي ترهب العدو ، لذلك اكتسب محمد الفاتح المؤهلات العلمية التي أثبتت أنه مخطط استراتيجي يحتل مكانة مهمة بين قادة التاريخ الذين أداروا أهم المعارك التي غيرت مسار التاريخ .
لقد تمكن محمد الفاتح من بناء جيش يصل تعداده إلي ربع مليون مقاتل قام بتدريبهم علي فنون القتال وطور أسلحتهم بعد أن وظف موارد الدولة لإنتاج الأسلحة .
وفي الوقت نفسه عمل علي تأهيلهم معنويا ليكونوا نعم الجيش كما وصفه رسول الله صلي الله عليه وسلم ، واستخدم الحديث في غرس الإيمان وحب الجهاد في نفوسهم .
ودراسة سير المعركة توضح أن قوة هذا الجيش الإيمانية والمعنوية أكبر وأهم من قوته المادية ، فلقد كان جيش الامبراطورية البيزنطية هو الأكثر عددا وعدة .. لكن جيش محمد الفاتح تميز بقوته الإيمانية ، وبقدرته علي التضحية ، وحب الاستشهاد ، وشجاعة القلب والضمير.
وهذا يوضح أن قوة الإيمان أهم وأكثر تأثيرا من قوة السلاح.. وأن اعداد محمد الفاتح لجيشه بالإيمان والمعرفة كان العامل الحاسم في المعركة .
دور العلماء في الجيش
هناك سلاح مهم استخدمه من قبل صلاح الدين الأيوبي هو دور العلماء الذين قاموا بتعبئة الأمة ، وملأوا النفوس إيمانا وعزيمة وإصرارا علي الجهاد .
وهذا الدور يتجلي أيضا في تجربة محمد الفاتح الذي طور هذا الدور ، فوظف العلماء لتحقيق مجموعة من الأهداف من أهمها :
1- زيادة معرفة الجنود بالإسلام والشريعة الإسلامية .
2-غرس حب الجهاد والاستشهاد في نفوسهم .
3- تقوية قلوبهم بالإيمان وزيادة شجاعتهم ،وتذكيرهم بوظيفتهم الحضارية ، وأهمية الإنجاز الذي يعملون لتحقيقه.
4- توضيح الأحكام الإسلامية للجهاد وربطهم بها ، وهذ يوضح الالتزام الأخلاقي للجنود وسلوكهم الإنساني المتميز خلال المعركة وبعدها .
هذا يعني أن السلطان محمد الفاتح كان يقود بالمعرفة رجالا حرص علي اعدادهم وتأهيلهم بالمعرفة لتحقيق هدف عظيم لا يمكن أن يتحقق إلا بالالتزام بأحكام الجهاد الإسلامية، وبالمبادئ والقيم والأخلاقيات الحضارية الإسلامية.
ففتح القسطنطينية لم يكن مجرد معركة عسكرية يمكن حسمها بالتغلب علي جيش العدو ، أو قتل أكبر عدد من جنوده ، لكنه عملية تغيير حضاري ، وتحرير للبشرية من ظلم الإمبراطورية البيزنطية وقسوتها و وحشيتها.. وهو انقاذ للبشرية بالإسلام ، ونشر لنور الإسلام في العالم ، لذلك يجب الالتزام فيها بأخلاقيات الإسلام .
إنها قيادة وأمة تقوم علي المعرفة المرتبطة بالمبادئ والقيم والأخلاقيات ، وتقوم بعملية تغيير حضاري عالمي لصالح البشرية كلها .
يوضح ذلك أن محمد الفاتح كان قائد تغيير ، يقود بالمعرفة والقيم والأخلاقيات أمة تعمل لتحقيق هدف عظيم هو تحرير البشرية من ظلم الامبراطورية الرومانية وقهرها الذي عانت منه قرونا طويلة .
استخدام الذكاء الانساني وصراع العقول
ولكن فتح القسطنطينية يحمل جوانب أخري يمكن أن يضيئ لنا الطريق لتطوير علم القيادة .. ذلك أن انتصار محمد الفاتح وجيشه علي الامبراطورية البيزنطية لم يكن مجرد انتصار في معركة عسكرية ، ولكنه كان انتصارا في صراع عقول ، فاستخدم كل جانب ذكاءه الإنساني وخياله لابتكار أساليب وأدوات جديدة .
هذا يعني أن محمد الفاتح قدم لنا في تجربته امكانيات لتطوير القيادة القائمة علي الإبداع والابتكار، والتي تقوم بالبحث عن حلول جديدة للمشكلات ، ومواجهة التحديات والتغلب عليها .
والقيادة القائمة علي الابداع والابتكار لا تقتصر علي تطوير الأسلحة مثل المدفع ، لكن ابداع محمد الفاتح تمثل في ادارة الصراع ، ومن أهم جوانبه صراع العقول .
لقد تصارعت حول أسوار القسطنطينية العقول الإسلامية والبيزنطية ، وأبدعت هذه العقول في صراعها أسلحة وخططا واستراتيجيات .. لكن العقل المسلم المرتبط بالإيمان هو الذي حقق الانتصار والانجاز العظيم.
وفي البحر أيضا تصارعت العقول ، فتمكن محمد الفاتح من اعداد أسطوله ليواجه به اساطيل الامبراطورية البيزنطية والدول الأوربية كلها .ومهد ذلك لسيطرة الدولة العثمانية علي البحار .
لقد انطلقت عقول المسلمين في الدولة العثمانية عندما ملأ الإيمان قلوبهم، وشعروا بالعدل والحرية، وعملوا لتحقيق هدف عظيم لتبدع وتبتكر وتخطط وتجاهد وتنتصر خلف قيادة تقوم علي العلم والمعرفة، وتلتزم بالمبادئ والأخلاقيات الإسلامية.
هذه بعض الجوانب التي يمكن أن تفتح لنا مجالات جديدة لتطوير علم القيادة انطلاقا من دراسة تجارب القادة المسلمين، وخاصة السلطان محمد الفاتح صاحب الانجاز الحضاري التاريخي بتحرير البشرية من ظلم الامبراطورية البيزنطية، وفتح القسطنطينية.
ــــــــــــــــــــــــ
أستاذ الإعلام ـ جامعة القاهرة.