أعظم عطاء للعبد يوم القيامة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}.
وأقصى حرمان: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}.
وإذا لم يكن لروح الإنسان حظٌّ من المعراج إلى الله في الدنيا، فلن يكون لها حظٌّ من رؤيته في الآخرة.
أرواح البشر جميعا هي نفخة من روح الإله، دائما تحنّ لخالقها، وتتطلع للمعراج نحو منزلها الأول في السماء، ويحول دون معراجها أجسادها المخلوقة من الطين، تشدها بالجاذبية نحو الأرض بمغرياتها وشهواتها ومتطلباتها.
صراع أبدي يحياه الإنسان بين محاولة معراج الروح، وبين جسد يشده بجاذبية الطين نحو الأرض، هذه الثنائية البشرية بين الروح والجسد جعلت من البشر صِنفًا أرقى وأكرم عند الله من الملائكة، وجعلت آخرين أقل من الطين وشرًّا من الشياطين.
إنسان العصر صار أكثر حبساً داخل متطلبات جسده أكثر من أي وقت مضى، صار حتى محبوسا عن النظر إلى السماء وسط شاهق البنيان ووهج الأضواء الصناعية، طال العهد بينه وبين النظر إلى السماء، إلى الخلوة والتفكر، شغلته المشاغل عن أسئلة الطفولة البريئة عن الله، وعن المصير، وعن الهدف من الحياة.
من كثرة الحُجُب صار العجب والدهشة يتملكانه، حين تنقل السيرة حوارا بين النبي صلى الله عليه وسلم والصحابي “الحارث بن مالك الأنصاري”، حين سأله النبي: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثُ؟
قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا، فَقَالَ: انْظُرْ مَا تَقُولُ، فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟
فَقَالَ: قَدْ عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، وَأَسْهَرْتُ لِذَلِكَ لِيَلِي، وَاطْمَأَنَّ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا.
فَقَالَ: يَا حَارِثُ عَرَفْتَ فَالْزَمْ.
نتعجبُ من قول سيدنا “علي بن أبي طالب”: “لو أن الله كشف عني الحجاب، ما ازددتُ يقينا”، وكأن روحه عرجت لخالقها وخرقت الحُجُب وهو على قيد الحياة ورأت الجنة والنار وعرش الرحمن.
وصدقَتْ حكمة ابن عطاء الله السكندري: “لَوْ أَشْرَقَ لَكَ نُورُ اليَقِينِ لَرَأْيْتَ الآخِرَةَ أَقْرَبَ إِلَيْكَ مِنْ أَنْ تَرْحَلَ إِلَيْهَا“.
“الحارث” و “علي” و “السكندري” ليسوا نماذج من زمن سحيق لا تتكرر، بل ستظل تتكرر لأن جوهر الإنسان لن يتغير، وما زال بيننا من يحمل يقين سيدنا “أبي بكر” عن إسراء ومعراج النبي صلى الله عليه وسلم، ويردد: “إن كان قال فقد صدق“.
وعلى النقيض ستظل هناك أرواح بعيدة عن المعراج، مقطوعة عن دروب السماء، محجوبة داخل أجساد من طين، فصاروا أمواتا في قبور أجسادهم وهم على قيد الحياة:
{وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ}.