لا تزال أحلام فروانة، والدة الشهيد محمد فروانة، تنتظر عودة جثمان نجلها، على أحر من الجمر، من أجل دفنه، كحق إنساني.
واستشهد المقاوم الفلسطيني محمد فروانة أثناء تنفيذه ومجموعة من المقاومين عملية “الوهم المتبدد”، في صيف عام 2006، التي أسفرت عن خطف الجندي الصهيوني جلعاد شاليط.
تقول الأم فروانة: إنها ملّت من مناشدة المجتمع الدولي والأمم المتحدة، وكل الجهات الحقوقية، استعادة جثمان ابنها محمد، لدفنه، وليكون له قبر تقوم بزيارته.
وجددت فروانة، خلال حديثها لـ”قدس برس”، في اليوم الوطني لاستعادة جثمانين الشهداء، مطالبتها باستلام جثمان نجلها.
وفي 27 أغسطس 2008، أطلق مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان، بالشراكة مع “شبكة أمين الإعلامية”، الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء المحتجزة والكشف عن مصير المفقودين.
وتطورت الحملة بعد ذلك، وانضمت إليها مؤسسات أُخرى، رسمية وأهلية، واعتُمد يوم انطلاقتها كيوم وطني لاسترداد الجثامين المحتجزة، ويتم إحياؤه كل عام.
وأضافت فروانة قائلة: من حقي أن أرى جثمان ابني الذي قضى عام 2006، وأودعه، وأدفنه، وأكتب اسمه على شاهد قبره، حتى تعرف الأجيال القادمة أن محمد فروانة شارك في عملية “الوهم المتبدد”، التي أفرج على إثرها عن ألف أسير فلسطيني.
وأشارت فروانة إلى أن الاحتلال يرفض حتى إعطاءها رقم ابنها في مقبرة الشهداء.
ووجهت والدة الشهيد فروانة حديثها للاحتلال، قائلة: سيرجع ابني وجثمانين كل الشهداء، ونلقي عليهم نظرة الوداع، وندفنهم عاجلاً أم آجلاً.
تقول فروانة: إنها ودعت نجلها وهو خارج لتنفيذ العملية وهو يقول لها: مشتاق لك يا أمي، مضيفة: أنا في كل لحظة أعرف أن شوقي لابني لن يضيع، سوف يعود محمد وكل الشهداء.
لوحة شرف
ووجهت الأم فروانة رسالتها لأمهات الشهداء، قائلة: ارفعن رؤوسكن عاليًا، أولادنا صنعوا التاريخ، وهم لوحة شرف في تاريخ فلسطين، وفق ما ترى.
واعتبرت أن سبب مواصلة الاحتلال احتجاز جثامين الشهداء هو أنهم يزرعون الرعب في قلوب الأعداء، لأنهم يخافون منهم رغم أنهم أموات.
ويصر الفلسطينيون على استعادة جثامين أبنائهم، ويخوضون معارك قانونية عديدة في سبيل ذلك، ويجددون بين الفينة والأُخرى مطالباتهم للسلطة الفلسطينية وفصائل المقاومة بإدراج جثامين الشهداء ضمن أي صفقة تبادل أو مفاوضات سياسية قادمة، وقد نجحوا في استعادة المئات منهم في عدة مناسبات، في حين بقي مئات آخرون.
من جهته، يقول الخبير والمختص في شؤون الأسرى عبدالناصر فروانة: إن دولة الاحتلال “الإسرائيلي” تحتجز نحو 357 جثمانًا لشهداء فلسطينيين وعرب، منهم 253 جثمانًا محتجزون منذ عام 1967، فيما تعرف بمقابر الأرقام.
وأضاف لـ”قدس برس” أن 104 جثامين أخرى محتجزة في ثلاجات الموتى منذ عام 2015، منها 12 جثمانًا لفلسطينيين من القدس، و27 جثمانًا لفلسطينيين من قطاع غزة، و65 جثمانًا لفلسطينيين من الضفة الغربية، بينهم 3 جثامين لإناث، و9 لأطفال، قتلهم الجيش “الإسرائيلي”.
وأردف فروانة: كنت قد سمعت عن سجون كثيرة، وقرأت قصصًا وحكايات عديدة نُسجت داخل جدرانها، ومررت بتجارب شخصية مريرة، لكنني لم أسمع يومًا عن سجون رسمية خُصصت للأموات، سوى في فلسطين.
واستدرك بالقول: إن الشهداء لم يوجعهم الموت، بل أوجع الأحياء المنتظرين عودتهم.
وتابع: إضافة إلى أنه أوجع دولة ما زالت تخافهم وهم أموات، وتخشى تحريضهم وهم في قبورهم تحت التراب، فتعاقبهم، وتعاقب ذويهم بعد موتهم، فتحتجز جثامينهم وتسجنها، في واحدة من أكبر وأبشع الجرائم الإنسانية والأخلاقية والدينية والقانونية التي تقترف علانية.
واتهم فروانة الاحتلال بـاستخدام الجثامين المحتجزة لديها لغرض الضغط والابتزاز والمساومة، كجزء من سياستها التي تتبعها منذ سنوات طويلة.
وقال: إن الاحتلال “الإسرائيلي” احتجز مئات الجثامين، بعضها أُفرج عنه في إطار صفقات تبادل مع فصائل عربية وفلسطينية، وبعضها الآخر عبر المفاوضات السياسية بين السلطة الفلسطينية ودولة الاحتلال، أو نتيجة جهود قانونية قامت بها مؤسسات حقوقية.
وأوضح أن احتجاز الجثامين لا يقتصر على من شاركوا في المقاومة المسلحة ومنفذي العمليات الفدائية النوعية؛ بل هناك جثامين محتجزة تعود إلى شهداء قتلتهم قوات الاحتلال عمدًا، أو قامت بتصفيتهم بعد احتجازهم واعتقالهم.
وأضاف أن هناك 9 جثامين محتجزة تعود إلى أسرى توفوا داخل السجون “الإسرائيلية” جراء التعذيب والإهمال الطبي وسياسة القتل البطيء.
وأكد الحقوقي الفلسطيني أن أحد أهم أهداف الاحتلال من وراء احتجاز جثامين الشهداء هو الانتقام منهم لما قاموا به من فعل مقاوم أوجعه وألحق الأذى والألم بجنوده، إضافة إلى ردع الآخرين ومنعهم من القيام بأعمال كفاحية ضد المحتل.
وختم فروانة بالتأكيد أن الاحتلال يعلم أن الشهداء وقود الثورة، لذا يتجنب المواجهات مع المشيعين، ويخشى أن تتحول الجنازات إلى مناسبات لتكريم الشهداء وتأكيد المضي على خطاهم.
مقابر سرية
من جهة أخرى، قال مدير جمعية واعد للأسرى والمحررين (منظمة أهلية)، عبدالله قنديل: إن اسم مقابر الأرقام ارتبط بسجلات أسماء الشهداء المحتجزة جثامينهم لدى الاحتلال “الإسرائيلي”.
وأوضح قنديل لـ”قدس برس” أن مقابر الأرقام هي مقابر سرية تقع في مناطق عسكرية مغلقة تخضع لوزارة الحرب “الإسرائيلية” يُمنع الاقتراب منها أو تصويرها، ولا يُسمح لذوي الشهداء أو ممثلي المؤسسات الدولية ووسائل الإعلام بزيارتها.
وأضاف أنها مدافن بسيطة تميزها أرقام مثبتة بدل الأسماء على لوحات معدنية أكلها الصدأ، ولكل رقم ملف خاص تحتفظ به الجهات الأمنية “الإسرائيلية” عن صاحب الجثمان المدفون في جوف القبر، ولذلك سميت بمقابر الأرقام.
وبيّن قنديل أن جثامين الشهداء دفنت في تلك المقابر بطريقة مهينة، ودفنت قريبة من سطح الأرض، بل إن بعض القبور قد تلاشت تمامًا بفعل السيول ومياه الأمطار التي جرفت ما بداخلها، فتناثرت الأشلاء وظهرت على سطح الأرض، على حد قوله.
وشدد الحقوقي الفلسطيني على أن سياسة احتجاز الجثامين تنتهك الحقوق الأساسية للمتوفي وعائلته، وتُعدُّ عملاً غير إنساني وغير أخلاقي، كونه يمثل تعديًا سافرًا على كل القيم الإنسانية والدينية والأخلاقية.
وأضاف أن هذه السياسة تشكل سلوكًا منافيًا لكل الأعراف والمواثيق الدولية، وانتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، ولا سيما اتفاقية جنيف الأولى، في مادتيها (15) و(17)، والمادة (120) من اتفاقية جنيف الثالثة، والمادة (130) من اتفاقية جنيف الرابعة.
وأوضح أن مواد اتفاقيات جنيف وغيرها نصت على حق الموتى في التكريم، وألزمت دولة الاحتلال بتسليم الجثث إلى ذويها، ومراعاة الطقوس الدينية اللازمة خلال عمليات الدفن، بل وحماية مدافن الموتى وتسهيل وصول ذويهم إلى قبورهم، واتخاذ الترتيبات العملية اللازمة لتنفيذ ذلك.
وبيّن قنديل أن عملية احتجاز جثامين الشهداء ورفض تسليمها إلى عائلاتهم لدفنها بكرامة، وتبعًا لمعتقداتهم الدينية، ترقى إلى مستوى العقاب الجماعي والمحظور، مشيرًا إلى أن ذلك وفقًا للمادة (50) من لوائح لاهاي، والمادة (87) من اتفاقية جنيف الثالثة، والمادة (33) من معاهدة جنيف الرابعة.