في مثل هذا اليوم 27 فبراير 2000م الموافق 21 من ذي القعدة 1420ه انتقل إلى رحمة الله تعالى الشيخ السيد سابق صاحب كتاب “فقه السنة” وقد رثاه في هذا الوقت الأستاذ الدكتور زغلول النجار حفظه الله، و”المجتمع” تعيد نشر هذا الرثاء في ذكرى وفاة الشيخ السيد سابق رحمه الله.
في مساء الأحد ٢١ من ذي القعدة سنة ١٤٢٠هـ (الموافق ٢٧ فبراير سنة ۲۰۰۰م توفي الإمام المجاهد والعالم الفقيه فضيلة الشيخ السيد سابق محمد التهامي صاحب كتاب فقه السنة، عن عمر يناهز الخامسة والثمانين وقد كان (يرحمه الله) واحداً من أبرز علماء المسلمين المعاصرين وأحد أئمة الفقه المعدودين في زماننا وركناً حصيناً من أركان الدعوة الإسلامية وأحد طلائعها، ففقدت الأمة بوفاته علماً من أعلام الدعوة الإسلامية، ورمزاً بارزاً من رموزها جاهد بنفسه وماله وعلمه من أجل إعلاء كلمة الله في الأرض، كان من طلائع الجهاد على أرض فلسطين، وكان في مقدمة الدعاة إلى الله على بصيرة، قام بنشر العلم الشرعي وتعليمه والدعوة إلى الالتزام به، كما قام بالبحث الدؤوب والتأليف العميق الدقيق فيه بوعي ووسطية واعتدال، رحمه الله رحمة واسعة وأجزل له المثوبة وألحقه بالصالحين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.
ولد فقيدنا الكريم في سنة ١٣٣٣هـ (١٩١٥م) بإحدى قرى محافظة المنوفية من دلتا مصر تدعى “اسطنها”، وأتم حفظ القرآن الكريم بكُتاب القرية في سن مبكرة وأتقن تجويده، ثم التحق بالمعاهد الأزهرية ثم بكلية الشريعة وحصل على شهادة العالمية مع إجازة التدريس من جامعة الأزهر سنة 1366ه (١٩٤٧م). اتصل الشيخ السيد سابق بالإمام الشهيد حسن البنا منذ كان طالباً بالأزهر الشريف وبايعه على العمل للإسلام والدعوة إليه وتثقيف الأمة على أساس من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ووفي ببيعته إلى آخر يوم في حياته التي بذلها كلها في هذا السبيل، وبعد تخرجه في كلية الشريعة عمل بالتدريس في مدارس وزارة التربية والتعليم ثم بالأزهر كما شغل عدداً من المناصب الإدارية التي كان منها الإشراف على التكية المصرية بمكة المكرمة وإدارة كل من دائرتي المساجد والثقافة بوزارة الأوقاف المصرية، وإدارة الجامعة الأزهرية ثم انتقل للتدريس بجامعة أم القرى بمكة المكرمة حيث شغل عدداً من المناصب القيادية كان منها رئاسة كل من قسم القضاء الشرعي، وقسم الدراسات العليا بكلية أصول الدين وقد تخرج على يديه في تلك الجامعة المباركة أعداد كبيرة من طلاب علم الفقه وقدم للأمة الإسلامية زاداً علمياً وفكرياً وروحياً سيبقى حياً إن شاء الله تعالى ما بقي الدهر.
وطوال رحلة حياته المباركة كان فقيدنا الكبير فضيلة الشيخ السيد سابق -يرحمه الله- نموذجاً فريداً للعالم المسلم، الذي يحمل هم الأمة ويجاهد من أجل إنهاضها من كبوتها، ونموذجاً فريداً للفقيه الموسوعي الذي نذر حياته لخدمة الفقه الإسلامي وتقديمه للناس في ثوب عصري ملتزم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فأصبح مدرسة بالفقه تميزت بالشمولية والمرونة والدقة المتناهية، فأعاد إلى أذهان المعاصرين من طلاب علم الفقه وأساتذته ذكرى كل من الشوكاني (يرحمه الله) في كتابه “نيل الأوطار” وابن القيم الجوزية عليه رحمة الله في كتابه “زاد المعاد” وزاد عليهما بالتعرض للعديد من قضايا العصر التي لم تكن موجودة في زمانيهما، وعلى ذلك فسوف يبقى كتاب شيخنا الكريم فقه السنة، منارة لطالبي هذا العلم يصله أجر المنتفعين به في كل مكان من هذه الأرض -إن شاء الله- وخاصة أنه طبع لمرات عديدة وتمت ترجمته إلى العديد من لغات العالم.
وكان شيخنا الكريم السيد سابق -يرحمه الله رحمة واسعة- في حياته نموذجاً فريداً أيضاً للداعية الشمولي الذي لا يخشى في الله لومة لائم ولم يفتر عن بذل أقصى الجهد في خدمة الدعوة الإسلامية من فجر شبابه إلى آخر لحظة في حياته، فقد استجاب لدعوة الإمام الشهيد حسن البنا مؤسس دعوة الإخوان المسلمين منذ بدايات تلك الدعوة وانخرط في عمل تلك الجماعة، وهي كبرى الجماعات الإسلامية المعاصرة التصاقا بمنهج المصطفى صلى الله عليه وسلم في الأخذ بشمول الإسلام والدعوة إلى وحدة الأمة فى افتراض شديد على الأصالة وأخذ رشيد بفضائل المعاصرة، وجاهد شيخنا الكريم السيد سابق في صفوف تلك الجماعة المباركة بلسانه وقلمه وماله وعلمه ووقته، فكثيراً ما كان يحيي كتائب الإخوان المسلمين بالمحاضرات والدروس وتلاوة القرآن الكريم، وجلسات الفقه والتهجد وغير ذلك من الأذكار والعبادات، فكان يحيى القلوب بعلمه وورعه ومداومته على ذكر الله، كثيراً ما تعرض للاعتقال والتعذيب لصدقه في رسالته الكبرى فكان ذلك يزيده إصراراً على دعوته وتصميماً على الجهاد في سبيل الله.
تعرضه للمحنة
فقد تعرض رحمه الله – للاعتقال سنة ١٩٤٨م لدوره في الدعوة للجهاد من أجل تحرير فلسطين من الهجمة الصهيونية التي تعرضت لها والمؤامرة الدولية على تهويدها، فكان بحق خطيب الجهاد وفقه الدعوة إليه، يُعلم كتائب الجهاد ويودعها إلى ساحة فلسطين، ثم قُدِم للمحاكمة أمام محكمة الجنايات المصرية سنة ١٩٤٨م بتهمة مفتراه اتهمته فيها مباحث أمن الدولة المصرية بإصرار قوي بإباحة دم رئيس الوزراء الأسبق محمود فهمي النقراشي كرد عملي على إصداره أمراً بحل جماعة الإخوان المسلمين ظلماً وعدواناً عقاباً لهم على جهادهم على أرض فلسطين ضد الغاصبين الصهاينة، وضد تلك الإرادة الكبرى التي قررت تسليم فلسطين لليهود.
وطالت فترة محاكمة الشيخ السيد سابق أمام محكمة الجنايات المصرية لشهور عديدة وكانت فرصة نادرة للشيخ الفاضل لإثبات براءته من تلك التهمة الباطلة، وبالفعل برأته المحكمة التي كان يترأسها عدد من القضاة العدول الذين أتاحوا له فرصة الدفاع عن قضيته.
وعلى الرغم من تبرئة ساحته من التهم التي وجهت إليه كلها إلا أن بعض العملاء الذين باعوا أنفسهم لشياطين الغرب حاولوا إلصاقها به في إصرار عجيب، أطلقوا عليه ظلماً لقب “مفتي الدماء”، إلى آخر يوم في حياته في محاولة يائسة لتشويه صورته أمام الجماهير الإسلامية الغفيرة التي تعلقت بعلمه وتأثرت بدعوته واهتدت بإرشاده وتوجيهه واقتدت بكريم خلقه، فقد كان فضيلة الشيخ السيد سابق (يرحمه الله) معروفاً بالعلم الغزير، والزهد في الدنيا، والصلاح في الدين والتقوى والورع، ولا نزكي على الله أحداً.
وكان كثير الذكر كثير التلاوة لكتاب الله كثير الانشغال بالعلم، وكان مشهوداً له بحسن الخلق، وعفة اللسان وشدة التواضع وكثرة التسامح مع المخالفين له والرفق بالناس عامة، كما كان شخصية جادة، مرهوبة الجانب، لا يحب المزاح ولا التزيد في الحديث وهو مع ذلك دائم البشاشة يلقى طلابه ومريديه، كما يلقى إخوانه ومحبيه بوجه طلق ودعابة مقبولة.
كان عزوفاً عن الأضواء، بعيداً عن مواطن الشهرة شغوفاً بالعلم، منكباً على دراسة الفقه وتبسيطه للمسلمين، محباً لطلاب العلم، حريصاً على نفعهم مركزاً على جهده ووقته وعلمه لهم.
كما كان وثيق الصلة برجال الدعوة وأهل العلم من رجالات الأزهر، والمجاهدين الكبار في عصرنا من أمثال الشيخ حسن البنا والشيخ محمد خطاب السبكي، والشيخ محمود شلتوت، والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ محمد الغزالي والشيخ أحمد الشرباصي والشيخ أحمد حسن الباقوري والشيخ عبد المعز عبد الستار، والشيخ يوسف القرضاوي وغيرهم من أئمة الفقه والدعوة في مصر وفي غيرها من الدول العربية والإسلامية والذي كان دائم اللقاء بهم في المجامع والمؤتمرات الفقهية والدعوية، كما تحرك فضيلته بالدعوة في كثير من بلاد العالم وكان من أوائل الذين زاروا الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفييتي السابق (الذي دمره الله).
وقد ترك فضيلة الشيخ السيد سابق (يرحمه الله) عدداً من المؤلفات النافعة في مقدمتها كتابه الشهير “فقه السنة”، الذي كتبه بتوجيه من قيادة ورموز جماعة الإخوان المسلمين وفي مقدمتهم الإمام الشهيد حسن البنا الذي قدم للكتاب والشيخ محمد الغزالي (يرحمهما الله) وقد روي عن الشيخ السيد سابق قبل وفاته أنه قد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه يبارك هذا العمل ويشجع عليه، وبالفعل قد بارك الله كتابه هذا “فقه السنة”، فانتشر انتشاراً واسعاً في مختلف دول العالم وتمت ترجمته إلى العديد من اللغات ونفع الله به المسلمين نفعاً عظيماً.
والكتاب يعتبر مدرسة في الفقه الإسلامي تميز بالاعتدال والوسطية، ومن هنا استحق عليه جائزة الملك فيصل (يرحمه الله) للدور الذي قام به في تبسيط الفقه الإسلامي والخروج به عن الخلافات المذهبية.
آثاره العلمية
ومن آثار شيخنا الأخرى النافعة إن شاء الله والتي ندعو الله تعالى أن يأجره عليها نوراً له في قبره، وأنساً له في وحدته، وعوناً له على الصراط وسبباً في قبوله في الفردوس الأعلى إن شاء الله تعالى ما كتبه في “العقائد الإسلامية”، و”عناصر القوة في الإسلام” و”إسلامنا”، و”دعوة الإسلام” و”باقة الزهر” و”ملخص أعمال الحج” و”اليهود والقرآن”، و”خصائص الشريعة الإسلامية” و”مميزات الشريعة الإسلامية” و”مقالات إسلامية” وغيرها، بالإضافة إلى عدد كبير من الرسائل العلمية التي قدمت إلى جامعة أم القرى للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه والتي تمت تحت إشرافه منها الرسائل التالية:
1- عناية الإسلام بالطفولة.
2- القضاء ونظامه في الكتاب والسنة.
3- مشكلة الآثار للإمام الطحاوي.
4- معرفة السنن والآثار للإمام البيهقي.
5- تحقيق مسند أم المؤمنين السيدة أم سلمة (رضي الله عنها).
6- المياه والرياح في القرآن الكريم.
وقد أكرمني الله تعالى بالاشتراك في مناقشة الرسالة الأخيرة وسعدت بمصاحبة الشيخ الجليل لعدد من الساعات ونهلت من علمه الغزير وأدبه الجم وشدة تواضعه، وشاركنا في تلك المناقشة كل من الأستاذ الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد وفضيلة الشيخ محمد الراوي (حفظهما الله) وكان هذا اللقاء كان وداعاً للشيخ الجليل الذي لم أسعد بلقياه بعد ذلك في دنيانا الفانية، وأطمع في كرم الله تعالى أن يجمعنا به في مستقر رحمته إن شاء الله.
وتقديراً لعلم فضيلة الشيخ السيد سابق (يرحمه الله) ولجهاده المتواصل من أجل إعلاء كلمة الله في الأرض فقد كرمته الحكومة المصرية بمنحه نوط الامتياز من الدرجة الأولى وكان ذلك في سنة ١٤٠٩هـ (۱۹۸۹م) وذلك لدوره الكبير في الدعوة إلى الله وفي حسن إعداد الدعاة ولدوره المرموق في وزارة الأوقاف كما كرمته المملكة العربية السعودية بمنحه جائزة الملك فيصل العالمية في الدراسات الإسلامية سنة ١٤١٤هـ (١٩٩٤م) مناصفة مع فضيلة الاستاذ الدكتور يوسف القرضاوي (بارك الله في عمره).
رحم الله فضيلة الشيخ سيد سابق برحمته الواسعة وأجزل له المثوبة على ما قدم وعوض أهله وذويه وإخوانه ومحبيه وزملاءه وطلابه والأمة الإسلامية كافة عنه خيراً و”إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ”، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.