عقدت جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة مؤخراً ندوة موسعة حول الشيخ الراحل الجليل الإمام محمد الغزالي (حياته وفكره)، شارك فيها عدد من المؤسسات والجمعيات والرموز الفكرية والدعوية، وحضرها جمهور حاشد ملأ المدرجات والساحات والشوارع المحيطة بالمكان، وامتدت الندوة حتى ساعة متأخرة من الليل، وقد قدم الحفل من تلاميذ الشيخ الغزالي د. محمد سليم العوا، ود. عبدالحليم عويس.
في بداية الندوة، أكد شيخ الأزهر د. محمد سيد طنطاوي أن العالم الإسلامي قد ودع خلال شهر واحد تقريباً أربعة من علمائه الكبار، وهم: شيخ الأزهر الراحل الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، والكاتب الإسلامي الكبير خالد محمد خالد، والعلامة المجاهد الإمام الشيخ محمد الغزالي، والمؤرخ المسلم الكبير د. حسين مؤنس.
وإن شيخنا وأستاذنا وإمامنا الشيخ الغزالي عندما أتحدث عنه، فإن اللغة على اتساعها وغناها لا تكفي للتعبير عما يشعر به الإنسان منا عندما يتحدث عن الغزالي، رحمه الله وطيب ثراه، ثم قال: أشهد الله أني ما رأيت دنية على الإمام الراحل الشيخ محمد الغزالي أبداً، وهو على كثرة من اختلطت بهم في حياتي، كان المثال المشرق لعالم الإسلام، عزة وأنفة، وفقهاً وعلماً وذكاء وقوة، ونظافة ورقة، وبياناً وفصاحة وتجرداً وسخاء، وعزاؤنا فيه أن الله قد أتاه حياة موصولة من الناس، وفتحاً مباركاً لعلمه النافع، ثم اختاره لجوار حبيبه في أشرف البقاع.
وحول الجانب العاطفي والرقائق في حياة الإمام الراحل الشيخ محمد الغزالي، قال د. أحمد عمر هاشم: إنه واحد من الأئمة المجتهدين والمجددين النادرين، الذين يظهرون في التاريخ على فترات متباعدة تتكرر قليلاً، فالإمام الغزالي، رحمه الله رحمة واسعة، لا تكفي هذه الندوة، ولا هذا الوقت للحديث عنه، ولا عن منهاجه، ولا عن كتبه، وحسبنا أن كتبه قد سارت في العالم الإسلامي سير الضوء في الآفاق، وربما كان الجديد أن تبرز أن موقفه مع الحق الذي يجب أن يقتدي به العلماء والدعاة والشباب، رغم هذه الجسارة والقوة والشجاعة، فقد ظل طوال حياته العالم الرقيق العاطفي المهذب الفياض، عن علم وسعة أفق، لم يتحيز طول عمره لمذهب دون مذهب، أو فكر دون فكر، إنما كان كما يقول عن نفسه: إنه كان عبداً للحق وحده.
وأشار د. هاشم إلى كتبه العذبة “الجانب العاطفي في الإسلام”، و”التعصب والتسامح في الإسلام”، و”فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء”، ثم ألمح إلى عدد من رقائق الشيخ الغزالي في حياته العامة والخاصة، وقال: لا أجد تعبيراً أعظم من قول شوقي رحمه الله:
فاخشع ملياً واقض حق أئمة
طلعوا به زهراً وماجوا أبحراً
كانوا أجلَّ من الملوك جلالة
وأعز سلطاناً وأفخم مظهراً
زمن المخاوف كان فيه جنابهم
حرم الأمان وكان عزُّهُمُ الذرا
حتى ظننا الشافعي ومالكاً
وأبا حنيف وابن حنبل حُضَّرا
ولأن حياة الغزالي قد امتد جهادها في الميادين كلها، فقد أشار إلى ذلك أ. مصطفى مشهور، المرشد العام للإخوان المسلمين، قائلاً: لقد ترعرع الغزالي منذ شبابه في ظل دعوة الإخوان المسلمين، وتغذى منها بشمولية الإسلام وبوحدة الأمة الإسلامية وضرورة جمع كلمتها، وإقامة دولتها، وبأحقية الإسلام في أن يسود الدنيا بأسرها، وظل طوال ستين عاماً يدور حول هذه المعاني في كل مكان يدعو إلى الله تعالى، وينفي عن الإسلام أي دخن، ويتصدى لمن يهاجمون الإسلام، وكان سيفاً مسلولاً على أعداء الإسلام لم يفل له حد، وكثيراً ما أرعب الملاحدة والمنافقين، وكان مع ذلك لين الجانب، رقيق المشاعر، عذب الحديث، رغم قوة كلماته وقلمه، وعنفه في الحق، لقد عاش، رحمه الله تعالى، حارساً مغواراً من حراس العقيدة على طريق أخيه ومعلمه الإمام الشهيد حسن البنا، رحمة الله عليه، يكتب الكلمات المضيئات وإن كلفته حياته أو ماله أو أمنه وراحته، والشيخ الغزالي هو واحد من أئمة المربين لجيل الصحوة، وأحد الأعلام القلائل للحركة الإسلامية المعاصرة، فقد كان يعيش، رحمه الله تعالى، للإسلام وحده، ووقف في وجه كل أعدائه من شيوعية وصهيونية واستعمار واستبداد، بل وجمود وتطرف، كما وقف في وجه الملاحدة الجدد من علمانيين مارقين أو مرتدين وخونة.
ثم قامت د. نعمات أحمد فؤاد بتحليل عميق للأبعاد الفكرية للشيخ محمد الغزالي، وأهمها: تأصيل المفاهيم، والانشغال بالكليات، وإبراز الجانب الحضاري للإسلام، واستشراف الرؤية المستقبلية دائماً، وإحياء التراث بما يخدم قضايا الواقع داخل أرض الإسلام أو خارجها، والتحذير المبكر من مؤامرات الصهيونية والتنصير، والدفع بالرؤية الإسلامية في قضايا العصر الشائكة؛ كتوزيع الثروات وحقوق الإنسان، وقضايا الحكم والمرأة والأنظمة الاجتماعية والسياسية.
ثم ألقى الشاعر الكبير محمد التهامي قصيدة، جاء فيها:
أيها العالم ماذا روَّعك
فالتزمت الصمت كي لا نسمعك
وارتضيت البعد عن أنظارنا
فحملت الصبر والسلوى معك
وتركت الروض قفراً موحشاً
فتمنى كلنا أن يتبعك
هذه أرواحنا نفدي بها
إن يكن في طوقها أن تُرجعك
همل، وهذا القول في أيامنا
أيها العملاق تخلي موضعك؟
كنت في الأهوال طوداً شامخاً
ما رأينا أي هول زعزك
تعبر الغيم وتضوي فوقه
ما استطاعت غيمة أن تمنعك
كيف نحيا دون قول مُلهم
صاغه الرحمن لما أبدعك
تعرف الحق صواباً كله
ما تركت الزيف حتى يخدعك
كم توالى باطل مستحكم
ثم ولى عاجزاً أن يُخنعك
أغلق الحق على أسراره
وعليها في جلال أطلعك
فشفيت الجرح في أعماقنا
بعدما أجريت فيه مبضعك
قل لنا بالله يا قنديلنا
كيف يحيا في الدجى من شيعك؟
أما أ. عادل حسين، فقد تناول ريادة الشيخ الراحل محمد الغزالي للصحوة الإسلامية، مُقسماً حياة الشيخ الغزالي إلى ثلاث مراحل؛ في مرحلة الثورية، ثم مرحلة التأصيل، ثم مرحلة التنظير، وألقى الضوء بصورة تفصيلية على المرحلة الثالثة، حيث كان الغزالي فيها رائداً من رواد الصحوة، ومرشداً من مرشديها على امتداد ساحة العمل الإسلامي العالمي، وقد أخرج في تلك العديد من الدراسات، وألقى المئات والآلاف من الدروس والخطب والمحاضرات، محذراً جيل الصحوة من الفَوت أو الموت.
ثم ألقى د. عبدالحليم عويس كلمة للفقيه الداعية الكبير د. يوسف القرضاوي الذي منعته ظروف خاصة من الحضور، وقد أثارت هذه الكلمة الفياضة شجون الحضور جميعاً لما حملته من معانٍ خاصة تجمع بين الرجلين الكبيرين؛ القرضاوي، والغزالي.
ثم تحدث أ. أحمد فراج، في كلمة مؤثرة، عن بعض المواقف الخاصة مع الشيخ الجليل الراحل.
وأشار المستشار طارق البشري، في بحث مطول، إلى فقه الدعوة عند الإمام الراحل الشيخ الغزالي، ثم أشار إلى أن الشيخ الغزالي كان من أوائل المنادين بالاقتصاد الإسلامي في بداية الثلاثينيات، ومن المنادين بمنهجية الإسلام كحل للحياة السياسية والاقتصادية واستثمار الطاقات المعطلة لدى المسلمين.
وعن الموقع الفكري والمعارك الفكرية للشيخ الغزالي ضد الظلم الاجتماعي والنصوصية الحرفية، ألقى د. محمد عمارة بحثه الذي تناول فيه المشروع الفكري عن الشيخ الغزالي، بدءاً من كتابه “الإسلام والأوضاع الاقتصادية”، وحتى آخر مؤلفاته حول “التفسير الموضوعي للقرآن الكريم”.
ومن قدامى الإخوان المسلمين، تحدث د. فريد عبدالخالق، عضو مكتب الإرشاد الأسبق، فأوضح الأسس التربوية والمنهج التطبيقي عند الشيخ محمد الغزالي، ومدى رحابته الفكرية وحدة ذكائه، وإلهامه في إنفاذ هذا المنهج في نفسه وفي القريبين منه.
وعلى الطريق نفسه، تحدث الداعية الكبير د. محمد المختار المهدي، الأستاذ بجامعة الأزهر، عن الجمعية الشرعية، فأشار إلى معالم الدعوة والسلوك، عند الشيخ الغزالي وطوافه بجامعات الأزهر، وأم القرى، والملك عبدالعزيز، وقطر، وباكستان، والأمير عبدالقادر الجزائري ثم حركته الدعوية حتى آخر يوم في حياته.
وكان من أهم بحوث هذه الندوة البحث الذي ألقاء د. كمال أبو المجد، موضحاً فيه الأسس والمبادئ التي قامت عليها اجتهادات الشيخ الغزالي كإمام ومفكر وأستاذ للجيل المثقف المسلم.
وقد اتخذت اللجنة المشكّلة لهذه الندوة عدة توصيات بخصوص دراسة مشروع الشيخ الغزالي الفكري على المستويات الجامعية والثقافية والدعوية، كما أوكلت اللجنة إلى بعض الأعضاء مهمة جمع التراث الكامل للشيخ الراحل، رحمة الله عليه، وسلام على شيخنا الجليل الراحل، وسلام على الصادقين.