زار الشيخ محمد الغزالي خلال مسيرته الفكرية الثرية ومشواره الدعوي دولاً إسلامية منها الجزائر التي استقر بها خمس سنوات (1984 – 1989) عمل فيها أستاذاً في الجامعة الجزائرية، وساهم بجهد كبير في ترشيد النشاط الفكري والدعوي فيها، وكان أكثر العلماء والمفكرين حضوراً في الساحة الثقافية وتأثيراً على الجماهير.
ذكرياته عن البشير الإبراهيمي
تعرف الشيخ محمد الغزالي إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ونشاطها الإصلاحي في الجزائر عن طريق الفضيل الورتلاني الذي كان زميله في الدراسة في الأزهر، ولما لجأ الشيخ البشير الإبراهيمي، رئيس الجمعية، إلى القاهرة في عام 1952م التقاه الغزالي للمرة الأولى في المركز العام للإخوان المسلمين، حيث ألقى الإبراهيمي محاضرة عن التواصل بين المغرب والشرق، وكان لكلمات الشيخ الإبراهيمي دوي بعيد المدى، وكان تمكنه من الأدب العربي بارزاً في أسلوب الأداء وطريقة الإلقاء، والحق أن الرجل رزق بياناً ساحراً، وتأنقاً في العبارة يذكرنا بأدباء العربية في أزهى عصورها.
حضر الغزالي عدة مرات مجالس الإبراهيمي في العاصمة المصرية، وتبادل معه أطراف الحديث في مواضيع مختلفة، ويصف الغزالي هذه الجلسات بمصدر متعة أدبية وعلمية تجعل أدباء القاهرة وعلماءها يهرعون إليه ويتزاحمون عليه، واكتشف فيه أيضاً عالماً بالفقه والأصول والأحكام، ويقول في هذا الصدد: «ومن الخطأ تصور أن الشيخ الكبير كان خطيباً ثائراً وحسب، لقد كان فقيهاً ذكي الفكرة بعيد النظرة»، وهذا ما دفع الغزالي إلى الالتفاف به والاستمداد منه([2]).
ويذكر الغزالي، على سبيل المثال، أن الإبراهيمي هو صاحب فكرة توزيع ذبائح الحجاج خارج الحرم وإرسالها إلى باقي البلدان الإسلامية التي انتشر فيها الفقر والجوع والجفاف ليستفيد منها فقراء المسلمين، وعندما اندلعت الثورة الجزائرية في نوفمبر 1954م كان الغزالي مسؤولاً في وزارة الأوقاف المصرية، ولم يتردد في فتح المساجد لرجال جبهة التحرير الوطنية لتكون منبراً للدعاية للثورة التي آمن بشرعيتها وتفاءل بنصرها القريب، فيقول عن المجاهدين الجزائريين: كانت تضحياتهم سيلاً مواراً بالدماء والأشلاء، حتى تأذن الله بالفرج، وانكسرت القيود، وعادت صيحات التكبير تنبعث من المساجد التي غلقت([3]).
في جامعة الأمير عبدالقادر
فتحت جامعة الأمير عبدالقادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة أبوابها في عام 1984م، واستدعى الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد، الشيخَ الغزالي الذي تعرف إليه خلال ملتقيات الفكر الإسلامي السابقة وعيَّنه رئيساً للمجلس العلمي للجامعة، يقول الغزالي عن لقائه الأول مع الشاذلي: طلب مني بصراحة أن أعاونه في بناء جامعة لكي تكون أزهراً في الجزائر تؤدي دور الأزهر في مصر وفي العالم الإسلامي كله؛ لأن موقع الجزائر ومركزها يجعلانها قادرة على حماية الثقافة الإسلامية ونشرها، واعتبر الشاذلي، الشيخَ الغزالي ضيفه الخاص طوال مدة إقامته في الجزائر، فوضع في خدمته حارساً وسائقاً خاصاً له، وتعتبر هذه الصلة المميزة بين الرجلين نموذجاً نادراً للعلاقة بين العالِم والحاكم في حاضر العالم الإسلامي.
عمل الشيخ الغزالي رئيساً للمجلس العلمي للجامعة، وساهم في وضع البرامج ورسم السياسة العلمية لها، ودرَّس فقه الدعوة والتفسير وعلوم القرآن، وكان يحضر محاضراته الطلبةُ والجماهيرُ التي تفد من كل نواحي قسنطينة، وقد جمع بعضاً من دروسه ونشرها في كتاب بعنوان “المحاور الخمسة للقرآن الكريم”، وبدأت الصحف العربية والإسلامية تهتم بهذه الجامعة الجزائرية وتخصص لها صفحات وتحقيقات استطلاعية([4]).
عمل تلاميذ الغزالي في التعليم وحقل الدعوة والصحافة، ومنهم من غادر الجزائر لمواصلة دراساته العليا في الجامعات الإسلامية بالمشرق العربي والجامعة الإسلامية بماليزيا على وجه الخصوص، وقام أحدهم بتحضير رسالة جامعية بعنوان “الشيخ الغزالي مفكراً وداعية”، وهي من أوائل الدراسات الجامعية التي خصصت له.
كان نشاط الغزالي أكثر وأوسع خارج الجامعة؛ كالمشاركة في الملتقيات الفكرية، وإعطاء الدروس في المساجد، وإلقاء المحاضرات في المراكز الثقافية، والحضور في وسائل الإعلام المختلفة، وهذا ما سوف نتطرق إليه:
حديث الإثنين:
قدم الشيخ الغزالي كل يوم إثنين حديثاً دينياً قبل نشرة الأخبار المسائية، كان يدوم حوالي ربع ساعة، ويتحول في شهر رمضان إلى حديث يومي قبل موعد أذان الإفطار، يفسر فيه آيات قرآنية، كانت هذه الحصة من أنجح البرامج التي يقدمها التلفاز الجزائري، وكان الكثير يسجلها ويعيد بثها في الحفلات الدينية والنشاطات الثقافية خاصة داخل الجامعات والأحياء الطلابية.
وكان “حديث الإثنين” يتناول مختلف المواضيع التي تمس الدين وحياة الناس بأسلوب شيق وطريقة جذابة، وكان الشيخ يسعى من خلال هذه الدروس لمحاربة كل أنواع التطرف التي بدأت ملامحها تظهر على الساحة السياسية والدينية في الجزائر، وتحدث في هذه الحصة الأسبوعية عن عدد من المواضيع الحساسة التي أثارها فيما بعد في كتابه “السُّنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث”.
كما شارك الشيخ الغزالي في حصة “رأي الدين والشريعة”، التي كان يقدمها التلفاز الجزائري مرة كل أسبوع، وينشطها د. عمار الطالبي، رئيس جامعة الأمير عبدالقادر للعلوم الإسلامية.
الملتقيات السنوية للفكر الإسلامي:
نظمت وزارة الشؤون الدينية الجزائرية ملتقى دولياً للفكر الإسلامي يحضره كل سنة علماء من كل جهات العالم، وقد شارك فيه الشيخ الغزالي لأول مرة في عام 1982م، وكان محور الملتقى حول القرآن الكريم، وداوم على الحضور والمشاركة إلى آخر ملتقى انعقد في الجزائر العاصمة في سنة 1990م.
كان الشيخ الغزالي يلقي كل مرة محاضرة ويشارك في التعقيبات، وكل محاضراته ومداخلاته مطبوعة ضمن إصدارات وزارة الشؤون الدينية، ورأينا كيف يتنافس المشاركون على الحديث معه ويتزاحم الطلبة على مجلسه.
كما ألقى الشيخ الغزالي محاضرات عامة في المساجد والمراكز الثقافية، وكانت محاضرته الأولى في قصر الثقافة بالعاصمة، في 7 أبريل 1989م، بعنوان “التاريخ الإسلامي في مساره الطويل”، حضرها إلى جانب الطلبة والمثقفين بعض الوزراء، ولقيت صدى كبيراً في الصحافة الجزائرية وبثها التلفاز بثاً مباشراً.
عندما تقارن نص المحاضرة مع ما كتبه في مؤلفه “تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل”([5])، نجد نفس الأفكار وتقريباً نفس الألفاظ بعد أن عرج على المحطات الكبرى للتاريخ الإسلامي، وتوقف عند تخلف المسلمين في العصور الأخيرة، ودعا المسلمين إلى الاهتمام بالتاريخ، وحث المؤرخين على إعادة كتابته بأسلوب عصري وشامل بحيث لا تُهمل الشعوب والدول الإسلامية الواقعة في شرق آسيا وأفريقيا الغربية([6]).
وتحدث الغزالي في محاضرات أخرى عن تاريخ الجزائر، وأثنى كثيراً على الإمام عبدالحميد بن باديس، رائد الحركة الإصلاحية في الجزائر، والمجاهدة الكبيرة فاطمة نسومر، التي قادت المقاومة الشعبية في منطقة القبائل في بداية الاحتلال الفرنسي.
وألقى في المركز الثقافي الإسلامي بالعاصمة سلسلة من المحاضرات في التفسير الموضوعي للقرآن، التي كانت مع -دروسه الرمضانية- قاعدة لكتابه الذي صدر فيما بعد بعنوان “نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم”.
وفي الصحافة الجزائرية، اهتمت الصحافة ووسائل الإعلام بشخصية الغزالي منذ وصوله إلى الجزائر، وحاورته خلال السنوات الخمس التي قضاها في البلاد، كل الصحف الجزائرية على اختلاف توجهاتها السياسية وقناعاتها الفكرية، وتابعت باهتمام كبير نشاطه الفكري وعمله الدعوي.
كتب في الصحافة الدينية كجريدة “العصر” التي تصدرها وزارة الشؤون الدينية، ومجلة “العلوم الإسلامية”، التي تصدرها جامعة الأمير عبدالقادر، وجريدة “العقيدة” المستقلة، وقام بعض المفكرين والكتَّاب الجزائريين بعرض ومناقشة كتبه في الصحافة([7])، وأعاد بعض دور النشر الجزائرية نشر كتبه بعد أن تنازل عن حقوق التأليف لصالح القارئ الجزائري.
(1) العدد (1492)، 2 المحرم 1423هـ/ 16 مارس 2002م.
(2) محمد الغزالي مع البشير الإبراهيمي في القاهرة، الثقافة الجزائر، العدد (87)، مايو يونيو 1989م، ص97-98.
(3) محمد الغزالي، السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، القاهرة، دار الشروق، 1989م، ص 7.
(4) انظر: على سبيل المثال على محمد العجلة جامعة الأمير عبدالقادر للعلوم الإسلامية بالجزائر رمز الأصالة منار الإسلام، أبو ظبي، العدد 3 أكتوبر 1989م، ص 34-53.
(5) محمد الغزالي، تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل القاهرة، دار الشروق، 1992م، ص 105-121.
(6) مجلة التاريخ، الجزائر، العدد (23)، النصف الأول 1987م، ص 21-41.