ما موقف الشيخ الغزالي من الأحداث الأليمة التي عرفتها الجزائر في التسعينيات؟
بعد نجاع الاستفتاء الشعبي على الدستور الجديد في فبراير 1989م، ظهرت عدة أحزاب سياسية، وأسرع الإسلاميون إلى تأسيس حزب إسلامي، وقد فازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالانتخابات البلدية في عام 1990م، والانتخابات البرلمانية في سنة 1991م، لكن تدخل الجيش في هذه المرة الأخيرة أوقف المسار الانتخابي، فيما بعد عبر الغزالي عن رأيه في هذا الانقلاب بمعارضة صريحة؛ لأنه يتنافى مع إرادة الشعب صاحب السيادة والقرار، كما ينص على ذلك الدستور.
تكونت جبهة الإنقاذ، وكنت أود أن تُترك -إن كانت لها أخطاء- تجني مرارة أخطائها، كما جاءت عن طريق التصويت الحر تنسحب من المجتمع بطريق التصويت الحر أيضاً، لكن الذي حدث غير هذا، فقد عوملت الجزائر بالانقلاب العسكري.
وهنا يدافع الغزالي عن الحق وليس عن الجبهة الإسلامية التي يعارض كثيراً من مواقفها وأسلوب عملها، فالانقلاب العسكري لا يحل المشكلة بل يعقدها أكثر؛ لأن العسكر في نظره ليس عندهم “ما تنشده أمة من الكمال والحرية”.
تعاطف الغزالي مع الجبهة الإسلامية، ودافع عن مناصريها بعد أن رأى في إيقاف المسار الانتخابي رفضاً للحل الإسلامي وتراجعاً واضحاً عن المسيرة التي قطعتها الجزائر في مجال الحريات العامة، واغتصاباً لحقوق المنتخبين وإهانة السياسيين بشكل عام والإسلاميين بصفة خاصة، إن الجزائريين المسلمين لجؤوا إلى الانتخابات وهي الصورة الوحيدة التي يعرفها العالم الحر للتعبير عن الرأي، فلما وصلوا إلى النتيجة التي کرهها الآخرون، عوملوا أسوأ معاملة، وأنا لا أتصور أن جبهة الإنقاذ مصيبة في كل شيء، ولكنني أرى أن ما ينسب إليها من أخطاء يزول عندما ننظر إلى الطريقة التي يعامَل الإنقاذيون بها([1]).
وهذا الموقف لم يدفعه إلى مساندة العمل المسلح الذي لجأ إليه بعض قادة الجبهة وأنصارها وجماعات إسلامية أخرى؛ لأنه يتنافى مع قناعاته الدينية ومنهجه في الدعوة، وعلى الرغم من ذلك اتهمه بعض معارضي الحل الإسلامي بكونه أحد المسؤولين عن ظهور التطرف الديني في الجزائر، وقد استقبل الغزالي هذا الاتهام باستياء شديد([2]).
الغزالي يودع الجزائر:
ذكر الشيخ الغزالي أسباباً صحية للاستقالة من منصبه الجامعي، ولكنْ في الحقيقة هناك أسباب أخرى دفعته لأخذ هذا القرار؛ كاختلافه مع بعض الطلبة الذين رأوا فيه عوناً للحكومة ومعارضاً للتيار الإسلامي الذي دخل المجال السياسي وقاموا بإضراب عام عن الدراسة في سنة 1989م؛ احتجاجاً على السير العام للجامعة.
زار الشيخ الغزالي الشيخ أحمد سحنون، عميد الدعاة الجزائريين، وأعطى آخر درس له في مسجد دار الأرقم في الجزائر العاصمة، وكان الدرس الذي قدمه قبل خطبة الجمعة يدور حول الدعاء، بكى فيه الغزالي وبكي معه المصلون، وحين طلب منه الشباب أن يقدم لهم نصيحته الأخيرة قبل رحيله من الجزائر، تذكر أول درس سمعه من الإمام حسن البنا، وأوصى الشباب به، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن”.
واقترح الغزالي أن يحل مكانه في جامعة الأمير عبدالقادر صديقه العزيز د. يوسف القرضاوي، وقد قبل هذا الأخير والحكومة الجزائرية، واشتغل فعلاً الشيخ القرضاوي عاماً في الجزائر، ثم غادرها بعد أن تفاقمت الأوضاع الداخلية للبلاد.
نظمت عدة حفلات التكريم وتوديع الشيخ الغزالي في قسنطينة والجزائر العاصمة، وفي حفل تكريمي أقيم بقصر رئاسة الجمهورية، قدم له الرئيس الشاذلي بن جديد باسم الشعب الجزائري وسام “الاستحقاق الوطني الأثير”، في 31 مايو 1989م، اعترافاً بجهوده التي قدمها للجزائر وجامعة الأمير عبدالقادر، وصرح بن جديد حين علق الوسام على صدر الشيخ: إن هذه المكافأة تعد تقديراً واحتراماً للجهود التي بذلتها لنشر المعرفة والتعاليم الإسلامية الصحيحة بين أفراد الشعب الجزائري، وأضاف قائلاً: إن فهمكم وشرحكم الصحيح للإسلام لم يقنع طلاب جامعة الأمير عبدالقادر الإسلامية فقط، وإنما شمل إطارات على مستويات عليا في القيادة الجزائرية([3]).
عاد الشيخ الغزالي إلى الجزائر للمرة الأخيرة في مايو 1990م للمشاركة في ملتقى مستقبل الإسلام، وساهم مع مجموعة من المفكرين (يوسف القرضاوي، توفيق الشاوي، طارق البشري، راشد الغنوشي، محمد فتحي عثمان، أحمد عروة) في تأسيس اتحاد الكتَّاب الإسلاميين([4])، واتخذوا من العاصمة الجزائرية مقراً له، لكن الظروف المأساوية التي شهدتها الجزائر بعد وقف المسار الانتخابي في يناير 1991م حالت دون تجسيد هذا المشروع على أرض الواقع.
حرص الشيخ الغزالي خلال إقامته في الجزائر على توجيه الرأي الإسلامي نحو الاعتدال والوسطية بعيداً عن التعصب والتطرف، خاصة في الفترة التي سبقت الانفتاح السياسي وظهور التعددية الحزبية، فكان الصوت الإسلامي الوحيد الذي سمح له النظام القائم بحرية النشاط الفكري وفتح له مجالات العمل الدعوي، لكن كثيراً من العلمانيين أساؤوا النقل عنه، وقليلاً من الإسلاميين فهموا مواقفه من النظام الذي لم يكن الغزالي موالياً له بصورة عمياء على حساب مبادئه المعروفة ومصلحة دينه الحنيف.
(1) الحياة، لندن، العدد (10779)، 14 أغسطس 1992م.
(2) المجلة، لندن، العدد (701)، 18 يوليو 1993م، ص 28.
(3]) الشعب، الجزائر، 1 يونيو 1989م.
(4) أ.د. توفيق الشاوي، مذكرات نصف قرن من العمل الإسلامي 1945 – 1995م، القاهرة. دار الشروق، 1998م، ص 461 – 465.