حسن أن يشهد الوطن حركة عمرانية واسعة.. بيوت تبنى.. ومؤسسات تنشأ.. ومرافق تنهض.. وطرق تفتح.. إلى غير ذلك من مظاهر العمران.
لكن هذا كله لا قيمة له ولا جدوى منه، ولا نفع فيه، ولا استمرار له إذا فقدت البلاد الرجال المخلصين الأقوياء الذين يعبدون الله. ويقيمون العدل ويفعلون الخير؛ (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ. نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لّا يَشْعُرُونَ. إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ. وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ.
وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ. أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) “المؤمنون: 55-61”.
إن بناء الرجال يجب أن يسبق أي بناء، والاهتمام ببناء الرجال يجب أن يسبق أي اهتمام.
والعالم اليوم لا يعاني أزمته في المؤسسات ولا في المباني ولا في الطرق.. وإنما يعاني أزمة في الرجال.
فالرجل الصالح يُصلح المؤسسة الفاسدة.
أما الرجل الفاسد فيفسد كل شيء تصل إليه يده، سواء كان مالاً أو عملاً أو قراراً.
ويؤسفنا أن نقول: إن اهتمام الحكومة بهذه القضية الرئيسة -بناء الرجال- ضعيف أو يأتي في آخر الاهتمامات.
وليس في مصلحة أي سلطة مسؤولة التفريط في بناء الرجال، فالسلطة هي المسؤولة عن إنتاج البلد وازدهاره واستقامته في النهاية.
والخلل في بناء الرجال يعيق النهضة تماماً.
إن ثلاثة أو أربعة تلاميذ في مدرسة أهم وأنفس من بئر بترول، وأهم من رصف طريق.
فالشعوب الحية توجد -بالكفاح- كل مرافق النفع والانتفاع. أما الشعوب الرخوة فتضيع -بالعبث- ما تحت يدها.
ولبناء الرجال مقومات محددة ومعينة.
أولاً: العقيدة والإيمان:
فالعافية والمال، وكل وسائل الراحة والعيش الهانئ لا تستطيع أن تصنع رجلاً مخلصاً صادقاً حازماً منتجاً جاداً.
إن الإيمان بالله جل شأنه هو الركيزة الأساسية في بناء الرجال.
ثانياً: التربية:
إن التربية التي نعنيها التي هي مقوم رئيس في بناء الرجال، تربية بالعبادات في المدارس وفي جميع مؤسسات الدولة، وتربية بالتلفزيون والإذاعة عبر البث الطيب الجاد السليم، وتربية القدوة حيث يجب على كل مسؤول في الدولة أن يكون قدوة للشباب، أن يكون مقيماً للصلاة، وقافاً عند حدود الله، مزداناً بمكارم الأخلاق، عف اليد، متقن الإنتاج، أميناً في عمله ومسؤوليته.
إن السلوك غير السوي إذا صدر من بعض المسؤولين كان كارثة تفوق كارثة ضياع مؤسسة بكاملها في حريق.
فهذا النوع من السلوك يهدم الرجال ولا يبنيهم، ويحرفهم ولا يقيمهم، ويشجعهم على الضياع والإهمال والضلال.
وتربية بالاهتمام.. أن يكون توجيه الدولة للشباب وسيلة لغرس الاهتمامات العليا في نفوسهم.
وهنا نرى أن برامج الترويح السياحي وأفلام السينما والتلفزيون وأنواع الفنون الهابطة، والهذر والإسفاف في المجالس والصحف كل ذلك يهبط باهتمامات الشباب ويفسد أذواقهم.
تربية بالرسالة العظيمة:
إن على الدولة أن تبني شبابنا على أساس أنه صاحب رسالة عظيمة يجب أن يبلغها للمحرومين منها.
إن أجهزة الإعلام وأجهزة التوجيه المختلفة في هذا البلد تحاول تربية الجيل على أساس أن الحياة طعام وشراب وتوالد وسيارة فارهة وملبس ناعم، ومسكن جميل.. ولا زيادة.
هذه ليست حياة المسلمين أبداً، ليتمتع الناس بما رزقهم الله من طيباته.
لكن ينبغي أن يكون مفهوماً أن للحياة هدفاً أسمى وأعظم من ذلك، أنه يجب على الدولة أن تربي شبابنا على أن له شخصية إسلامية تتفوق على أي اعتبار آخر.
شخصية إسلامية تجعله شهيداً على الناس في الأرض، ومعلماً لهم في الدين والهداية.
ليس شبابنا كشباب السويد أو شباب روسيا وأمريكا.
إن شبابنا صاحب رسالة عظيمة ارتبط بها مصير الناس أحياء وأمواتاً، وهذه المعاني واجب على الدولة أن تجعلها متنفس الشباب، وموضع اهتمامه.
في ضوء هذه المعاني ماذا نرى؟ نرى عكس ذلك.. نرى عوامل هدم تهدم الأجيال وتدمرها.
والحكومة صامتة ساكتة!
كثرت الشكوى من التلفزيون ومفاسده.. والحكومة صامتة.
كثرت الشكوى من الإذاعة ومباذلها.. والحكومة صامتة.
كثرت الشكوى من انحلال برامج الترويج السياسي.. والحكومة صامتة.
كثرت الشكوى من غزو الصحف والمجلات الماجنة.. والحكومة صامتة.
كثرت الشكوى من أفلام السينما وانحطاطها.. والحكومة صامتة.
كثرت الشكوى من الذين واللاتي يفدون إلى البلاد، من الساقطين والساقطات ويعيثون فيها الفساد، والحكومة صامتة.
كثرت الشكوى من المتطاولين على عقيدة الأمة من الملاحدة.. والحكومة صامتة.
كثرت الشكوى من الغزو الكنسي الخطير.. والحكومة صامتة.
إن هذه العوامل جميعاً سوس ينخر عافية الأمة، ويهد عزمها ويطفئ روحها.
ومستحيل أن تتم عملية بناء الرجال مع هذه الرزايا والخطايا.
ولكن -وبصراحة- لا يستطيع المسؤولون القيام بعملية البناء هذه إلا بعد أن يمارسوها هم أنفسهم.
لقد كان النبي | إذا دعا المسلمين إلى الجهاد تقلد سيفه قبلهم، وإذا صلى ركع وسجد قبلهم، وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، كما رأيتموني لا كما أقول لكم.
وإذا دعا إلى فضيلة كان هو قمة السمو في هذه الفضيلة.
والمسؤولون يؤمنون بمحمد رسول الله | نبياً ورسولاً، وهذا الإيمان يقتضي -بالضرورة- العمل والالتزام.
أيها المسؤولون، اتقوا الله في أنفسكم، وفي الشعب الذي تديرون شؤونه.
جرِّبوا جو الإيمان والصلاح والتقوى، وطاعة الله بتحكيم شرعه، وستجدونه نعم الجو.. ونعم المقام.. ونعم العزة.. ونعم المجد.
[1] العدد (213)، عام 1974م، ص10.