يتحدث كثير من الدعاة عن آخر الزمان، وعن أحاديث الفتن والملاحم وأشرطة الساعة، حديث يوحى مجمله أن الكفر في إقبال، وأن الإسلام في إدبار، وأن الشر ينتصر، والخير ينهزم، وأن أهل المنكر غالبون، وأهل المعروف ودعاته مخذولون.
ومعنى هذا: أن لا أمل في تغيير، ولا رجاء في إصلاح، وأننا ننتقل من سيئ إلى أسوأ، ومن الأسوأ إلى الأشد سوءاً، فما من يوم يمضي إلا والذي بعده شر منه، حتى تقوم الساعة.
وهذا لا شك خطأ جسيم، وسوء فهم لما ورد من بعض النصوص الجزئية، وإغفال للمبشرات الكثيرة الناصعة القاطعة، بأن المستقبل للإسلام، وأن هذا الدين سيظهره الله على كل الأديان، ولو كره المشركون.
لهذا كان من اللازم أن نتحدث عن هذه “المبشرات” ونشيعها بين المسلمين، حتى نبعث الأمل المحرك للعزائم، ونهزم اليأس القاتل للنفوس.
وهذه المبشرات كثيرة والحمد لله، بعضها مبشرات نقلية من القرآن الكريم ومن السُّنة النبوية، وبعضها من التاريخ، وبعضها من الواقع، وبعضها من سُنن الله في الخلق.
وسنتحدث عن كل واحدة من هذه المبشرة في الصحائف التالية، بما يفتح الله به.
المبشرات من القرآن:
أول هذه المبشرات ما جاء في القرآن مما وعد به الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين بنصرة الإسلام، وإتمام نوره ولو كره الكافرون، وإظهاره على كل الأديان ولو كره المشركون.
نقرأ في سورة “التوبة”، في سياق الحديث عن الذين يعادون الإسلام من المشركين وأهل الكتاب الذين حرفوا دينهم واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، ويأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله، قوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ {32} هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة).
يقول العلاَّمة ابن كثير في تفسير هاتين الآيتين: يقول تعالى: يريد هؤلاء الكفار من المشركين وأهل الكتاب “أن يطفئوا نور الله”؛ أي ما بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، فكذلك ما أرسل به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بد أن يتم ويظهر، ولهذا قال تعالى مقابلاً لهم فيما راموه وأرادوه: “ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون”، والكافر هو الذي يستر الشيء ويغطيه، ثم قال تعالى: “هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق”؛ فالهدى هو ما جاء به من الإخبارات الصادقة والإيمان الصحيح، والعلم النافع، ودين الحق هو: الأعمال الصالحة الصحيحة النافعة في الدنيا والآخرة، “ليظهره على الدين كله”؛ أي سائر الأديان، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الله زوى لي الأرض ومشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها”، وأخرج الإمام أحمد بسنده عن مسعود بن قبيصة أو قبيصة بن مسعود يقول: صلى هذا الحي من محارب الصبح، فلما صلوا قال شاب منهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عمالها في النار إلا من اتقى الله وأدى الأمانة”.
وأخرج الإمام أحمد أيضاً عن تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان كافراً منهم الذل والصغار والجزية.
وفي المسند أيضاً عن عدي بن حاتم يقول: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “يا عدي، أسلم تسلم”، فقلت: إني من أهل دين، قال: “أنا أعلم بدينك منك”، ثم قال: “إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام، تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له، وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة؟”، قلت: لم أرها وقد سمعت بها، قال: “فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بين هرمز”، قلت: كسرى بن هرمز؟! قال: “نعم كسرى ابن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد”، قال عدي: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها.
وروى مسلم بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى”، فقلت: يا رسول الله، إن كنت لأظن حين أنزل الله عز وجل: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) أن ذلك تاماً، قال: “إنه سيكون من ذلك ما شاء الله عز وجل، ثم يبعث الله ريحاً طيبة، فيتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم”.
وهذا المعنى تكرر في سورة “الصف” حيث يقول تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ {8} هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (الصف).
وفي سورة “الفتح” قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً) (الفتح: 28).
ومن المبشرات القرآنية قوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 55).
يقول ابن كثير: “هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض؛ أي أئمة الناس والولاة عليهم وبهم تصلح البلاد، ويخضع لهم العباد، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً وحكماً فيهم، وقد فعله تبارك وتعالى، وله الحمد والمنة، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين، وسائر جزيرة العرب، وأرض اليمن بكمالها، وأخذ الجزية من مجوس هجر، ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، وصاحب مصر والإسكندرية وهو المقوقس، وملوك عُمان، والنجاشي ملك الحبشة، الذي تملك بعد أصحمة رحمه الله وأكرمه.
ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده من الكرامة، قام بالأمر بعد خليفته أبوبكر الصديق بعد موته صلى الله عليه وسلم، وأخذ جزيرة العرب ومهدها، وبعث جيوش الإسلام إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد رضي الله عنه ففتحوا طرفاً منها، وجيشاً آخر صحبة أبي عبيدة رضي الله عنه ومن اتبعه من الأمراء إلى أرض الشام، وثالثاً صحبة عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى بلاد مصر، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق ومخالفيهما من بلاد حوران وما والاها.
وتوفاه الله عز وجل واختار له ما عنده من الكرامة، ومن على أهل الإسلام بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق، فقام بالأمر بعده قياماً تاماً، لم يدر الفلك بعد الأنبياء على مثله في قوة سيرته، وكمال عدله، وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكاملها، وديار مصر إلى آخرها، وأكثر إقليم فارس، وكسر كسرى، وأهانه غاية الهوان، وتقهقر إلى أقصى مملكته، وقصر قيصر، وانتزع يده من بلاد الشام، وانحدر إلى القسطنطينية، وأنفق أموالهما في سبيل الله، كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة.
ثم لما كانت الدولة العثمانية –دولة عثمان بن عفان– امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى وباد ملكه بالكلية، وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز، وجبي الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن، ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها”، فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، فنسأل الله الإيمان به وبرسوله والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا” (أ ه).
وهذا الوعد الإلهي للمؤمنين وعد دائم ومستمر، وما تحقق في عهد الخلفاء الراشدين من نصر وتمكين، يمكن أن يتحقق لمن بعدهم، فإن وعد الله تعالى لا يتخلف، قال تعالى: (وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً) (الكهف: 98)، ووعد الله هنا مشروط بالإيمان وعمل الصالحات وعبادة الله وحده وعدم الإشراك به، قال تعالى: (يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) (النور: 55).
ومن المبشرات القرآنية، قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فصلت: 53)، وهذا وعد من الله تعالى، يبرز منه في كل زمن ما نشهده بأعيننا، وما نسمعه بآذننا، وما نحسه بقلوبنا.
ومن جملة ذلك: ما نراه في عصرنا من دراسات من أهل العلم الطبيعي والرياضي، لبيان أوجه جديدة للإعجاز العلمي في القرآن، وفي بعض هذه الدراسات نظرات جيدة وعميقة اعترف بها عدد من غير المسلمين.
ومن المبشرات القرآنية ما قصَّه علينا القرآن من قصص الرسل والمؤمنين وأقوامهم ومخالفيهم من المشركين، وكيف كانت العاقبة للرسول والذين آمنوا معه، وكان الهلاك والدمار للذين تمردوا على الله وكذَّبوا المرسلين.
ومن ذلك قصة موسى وقومه وفرعون وملئه، وكيف حوَّل بني إسرائيل على يد موسى من حال إلى حال، وأغرق فرعون وجنوده، وحقَّق الله إرادته في تمكين المستضعفين، وإدالة دولة الطاغين المتجبرين، اقرأ هذه الآيات من سورة “القصص”: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ {4} وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ {5} وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص).
فسخر القدر الأعلى من فرعون وملئه وجنده، فقد كان يذبح أبناء بني إسرائيل حتى لا يظهر منهم من يزول ملكه على يديه، فإذا الطفل الموعود يدخل قصر فرعون بإرادته وينشأ ويترعرع فيه وتحت سمعه وبصره، وهو لا يدري، كما قال تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) (القصص: 8).
وكان ما كان من أمر موسى وفرعون مما قص علينا القرآن تفصيلاً، وبعث الله موسى رسولاً إلى فرعون وقومه، ومعه أخوه هارون، وكان لقاء تحدٍّ انتهى بهزيمة فرعون على أيدي سحرته أنفسهم، الذين خروا ساجدين وقالوا: (آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ {121} رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) (الأعراف).
وجن جنون فرعون، وهدد وتوعد، وأرغى وأزبد، وأوحى الله إلى موسى أن أسْرِ بعبادي ليلاً إنكم متبعون؛ (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ {53} إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ {54} وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ {55} وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ {56} فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {57} وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ {58} كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) (الشعراء).
ومن المبشرات القرآنية، كذلك، وعد الله المؤمنين بالنصر والنجاة والدفاع والولاية والمعية، على وجه العموم.
اقرأ قوله تعالى: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم: 47)، (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس: 103)، (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) (الحج: 38).
(اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ) (البقرة: 257).
(وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) (الأنفال: 19).
ويتأكد هذا الوعد الإلهي عند حلول المحن والشدائد بساحة المؤمنين، حين تمسهم البأساء في الأموال، والضراء في الأبدان، والزلزلة في النفوس، هناك يكون النصر أقرب ما يكون من المؤمنين.
كما قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) (البقرة: 214)، يقول الرسول والمؤمنون من قومه: متى نصر الله؟ استبطاء لمجيء النصر، وكان الإنسان عجولاً، وهنا يطمئنهم الله بهذه الجملة الفاصلة التي ختم بها الآية الكريمة: (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ)، ولكنه لا يعجل بعجلة أحدنا، وكل شيء عنده بمقدار بأجل مسمى، لا يستأخر ولا يستقدم.
وقال تعالى في خواتيم سورة “يوسف”: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (يوسف: 110).
فانظر إلى هذه الصيغة ودلالتها: (اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ)، من طول ما ارتقبوا النصر، فلم يجئ في الوقت الذين كانوا يرغبونه، (وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ) الضمير في قوله “ظنوا” يعود إلى الأقوام الذين أرسل إليهم الرسل، وذكروا في الآية السابقة، فهم ظنوا أن الله أخلف رسله ما وعدهم، ولم يصدقهم الوعد، وهنا تكون المفاجأة بعد الاستيئاس من جانب الرسل وظن السوء من جانب أقوامهم المشركين؛ (جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء).
فهو يأتي أحوج ما يكون الناس إليه، وأرغب ما يكون في وصوله؛ (وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)، فهذا من سنن الله مع المجرمين؛ ملاحقتهم بالبأس الإلهي حتى يؤدبهم ويعرفهم بمقدار أنفسهم، ويخفف من غلوائهم.
ومن ثم استقر في عقول المسلمين وقلوبهم أن الأزمة كلما اشتدت وتفاقمت أذنت بالانفراج، وأن أحلك سويعات الليل سواداً هي السويعات التي تسبق الفجر، وفي هذا قال الشاعر:
اشتدي أزمة تنفرجي قد أذن ليلك بالبلج!
وقال الآخر:
ولرب نازلة يضيق بها الفتي ذرعاً، وعند الله منها المخرج
ضاقت، فلما استحكمت حلقاتها فرجت، وكنت أظنها لا تفرج!