أثار فضيلة العلاَّمة د. يوسف القرضاوي مجدداً قضية حُرمة الربا في البنوك غير الإسلامية، مستنكراً بشدة إعادة فتح المعاملات الربوية التي أجمع علماء الأمة الإسلامية على حرمتها منذ عام 1965م، مستعرضاً مسيرة مؤتمرات هؤلاء العلماء التي تتوالى على هذا التحريم في مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة، والمؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي الذي شارك فيه 300 عالم شريعة وعالم اقتصاد، وأجمعوا على أن الفوائد هي الربا المحرم، واعتبر فتح هذا الملف وإعطاء الربا صكاً شرعياً فتنة تأتي للأمة، وهو يناقش بذلك ما أثاره د. محمد سيد طنطاوي، شيخ الأزهر الشريف، الذي دأب على إثارة هذه القضية كل فترة، كان آخرها منذ أسبوعين، وقد ناقشه د. القرضاوي مناقشة علمية، مستنكراً على عالم كبير مثله أن يهاجم بنوكاً قامت على الإسلام، وإباحته لفوائد البنوك التي هي الربا المحرم.
وبدأ فضيلته تصريحاته بالحديث عن آيات القرآن الكريم التي تحرّم الربا، متناولاً حكمة التحريم وضرر الربا، موضحاً أن للإسلام أحكاماً كثيرة في تنظيم المال، من أهمها حكمان أساسيان، هما: الأوامر؛ وتتعلق بإيتاء الزكاة، وهي ركن من الأركان الخمسة، والنواهي؛ وهو حكم تحريم الربا الذي هو من الموبقات السبع، كما جاء في الحديث الشريف، مذكراً المسلمين بأن الله لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، ثم ما جاء في القرآن الكريم بحرب الله ورسوله للمتعاملين بالربا، ثم بدأ في مناقشة القضية بمنطق علمي واضح.
فرد فضيلته على من يقولون: كيف يكون الربا ظلماً، ونحن نأخذه بالتراضي بين الطرفين؛ البنك والعميل؟ فقال: وهل يكون التعامل بالربا دون تراض؟ وهل كان الربا في وقت من الأوقات بالقهر؟ لقد كان المحتاجون يذهبون إلى المرابي ويقبّلون يده ليعطيهم، وكان كثيراً ما يتدلل عليهم حتى يزدادوا إلحاحاً عليه فيفرض عليهم ما يريد.
وأوضح أن الربا يكون دائماً بالتراضي، وقال: إن التراضي لا يحلّ الحرام ولا يجعل المنكر معروفاً، وضرب مثلاً على ذلك: بأنه إذا وقع الزنى بين رجل وامرأة بتراضيهما فلا يكون حلالاً؛ لأنه تراض على الباطل.
حكمة التحريم
وذكر د. القرضاوي حكمة تحريم الإسلام للربا، فقال: إن الحكم كثيرة، منها: أن المال في نظر الإسلام لا يزيد ولا ينمو وحده، فالنقود لا تلد نقوداً، والمال لا يلد مالاً، ولكن المال يزيد بالعمل، فالألف وجودها لا تصبح ألفاً ومائتين، والمائة لا تصبح مائة وعشرين، ولكن الذي يجعل الألف ألفاً ومائتين هو العمل، أن يعمل صاحب المال فيزيد ماله، فإذا لم يستطع صاحب المال أن يعمل يجوز له أن يعطي غيره المال ليعمل فيه؛ بالتجارة أو الزراعة أو الصناعة أو غيرها، فهذا بماله والآخر بجهده وخبرته، وبهذا يتعاون رأس المال والعمل معاً، والإسلام يقول من شارك غيره في التجارة أو الصناعة أو أي عمل مشترك: كن شجاعاً وتحمل مسؤولية المشاركة، فإذا ربح العمل فلكما معاً، وإذا خسرتما فالخسارة على الاثنين، إذاً فكثيراً ما نال كل واحد نصيبه من الربح حسب النسبة المتفق عليها، وإذا خسر فالخسارة على رأس المال طالما كانت الخسارة دون تقصير ولا تعد من الشريك، أما إذا ثبت أنه قصّر وأهمل فهو الذي يتحمل الخسارة.
وذكر أن الخسارة التي تخصم من رأس المال ليست ظلماً لصاحب المال، فهو خسر جزءاً من ماله، وشريكه خسر جهده وعمله الذي بذله دون مقابل، وأشار إلى أن المال ليس أهم من جهد الإنسان.
الشركاء يتحملون
وخلص إلى أن تعاليم الإسلام تقضي بأن يتحمل الشركاء الغُنم، والمكسب، والغرم، والخسارة معاً، لكن تحديد الربح مقدماً بنسبة 10% أو 20% فهذا لا يجوز؛ لأن صاحبه لا يدري هل سيكسب فإذا به يخسر، فتحديد الربح مقدماً ليس من العدالة، والعدالة المحكمة التي جاء بها الإسلام أن يتحمل صاحب المال الربح والخسارة.
وذكر د. القرضاوي أن علماء الإسلام أجمعوا على أنه لا يجوز تحديد شيء لأحد الطرفين دون الآخر، لا بد أن يكون تعاملها مشاعاً، وأوضح أن إجماع العلماء له سند من النصوص في الزراعة، وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى في الزراعة أن يشترط لأحد الطرفين ثمرة معينة، وقال: “ما يدريك قد لا يسلم هذا، وقد لا يحدث هذا”، فيكون لأحد الطرفين مكسب لا يشاركه فيه الآخر، أو تكون عليه خسارة لا يشاركه فيها الطرف الآخر.
وانتهى إلى أن الربا حرام، ولا شك في تحريمه، وقد سار المسلمون على ذلك منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم وطال ثلاثة عشر قرناً، ولم تأت دولة في تاريخ الإسلام لا في العهد الأموي ولا العباسي ولا العثماني، ولا في عصر المماليك، لم تقل دولة بأن الربا حلال، وهو أمر مقطوع بحرمته في دين الله، وذكّره د. القرضاوي أن المسلمين لم يعرفوا إباحة الربا إلا في عصر الاستعمار، وعندما جاء إلى ديار الإسلام وصارت له الغلبة والحكم جعل حياة المسلمين وفقاً لفلسفته؛ فأحلَّ ما حرَّم الله، ومن ذلك التعامل بالربا، وعرفت المجتمعات الإسلامية لأول مرة التعامل بالربا الحرام من خلال البنوك الحديثة، وهي جزء من معالم المجتمعات الغربية الرأسمالية، فالرأسمالية مهمتها أن تستقرض بالربا وتقرض بالربا، من كان عنده مال زائد يعطيه كوديعة، ويأخذ عليه فائدة، هذه الفائدة يقتطعها البنك من المحتاج الذي يذهب ليقترض، فالبنك ليس لديه عمل سوى المتاجرة بالربا، البنك لا يزرع ولا يصنع ولا يستثمر، والذين يقولون: إن البنك يستثمر أموال الناس يضللون الناس، فالبنك عمله قاصر على دائن ومدين، وليس هناك عمل للبنك، وهو المرابي الأكبر، وهو سمسار الربا الأعظم؛ يأخذ الأموال بفوائد ويعطيها بفوائد أكثر، ويربح من هذا الفرق.
وذكر أن المسلمين أجمعوا على أن الفوائد التي تعطيها البنوك أو تأخذها هي الربا المحرّم شرعاً، وقالت ذلك المجامع الفقهية التي تضم صفوة وكبار علماء الإسلام.
وأول مجمع صرح بحرمة الربا هو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، وكان ذلك في عام 1965م، عندما كان الشيخ محمود شلتوت شيخاً للأزهر، وكان فيه ممثلون لـ35 دولة إسلامية، بينهم كبار العلماء، أمثال: الشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ السنهوري، والشيخ علي الخفيف، والشيخ نديم الجسر، وغيرهم من كبار العلماء، وقد أجمع هؤلاء بصريح العبارة: “أن فوائد البنوك هي الربا الحرام”، وطالبوا الدول الإسلامية أن تقيم بدائل عن هذه البنوك.
في مجمع الفقه: تحريم
والحكم ذاته أقره مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي بمكة، أكد ما قرره مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، وأيد الفتوى نفسها مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، وأكد ما قرره المجمعان السابقان.
وجاء المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي الذي عقد في مكة المكرمة عام 1976م، وقد شارك فيه أكثر من ثلاثمائة عالم من مختلف الدول ما بين علماء شريعة وعلماء اقتصاد ومحاسبة، جميعهم أقروا أن الفوائد هي الربا الحرام، وأشهد أني حضرت هذا المؤتمر، كان رجال الاقتصاد أشد حماساً لتحريم الربا من تحريم الفقه.
وأضاف فضيلته: تعاقبت المؤتمرات الفقهية بعد ذلك، وكلها تؤكد تحريم الربا، مؤتمرات عقدت في الرياض، والكويت، ودبي، والقاهرة، وإسطنبول، وإسلام آباد، كلها أكدت أن فوائد البنوك هي الربا الحرام، ولم يعد هناك خلاف في حرمة الربا، وقلنا الحمد لله، استراح المسلمون وأغلقوا هذا الملف؛ ملف الربا وفوائد البنوك.
إرضاء المستعمِر
وذكر د. القرضاوي ما حدث من خلاف بين العلماء في مطلع هذا القرن عندما كنا حديثي عهد بالبنوك التي ابتلي بها المسلمون، حيث حاول بعض العلماء أن يبرروا الواقع إرضاء للمستعمر، قالوا: إن ربا الجاهلية غير ربا الحاضر، كلامهم غير صحيح؛ لأن ربا الجاهلية هو نفسه ربا البنوك حالياً، حيث يأخذ الناس الأموال من البنوك مقابل الدفع مؤجلاً نظير فائدة، يتم ذلك دون أي عمل يقوم به البنك، اللهم إلا إعطاء مال المدخرين للمحتاجين نظير فائدة يأخذ البنك جزء منها ويعطي الباقي للمودع، هذا هو عمل سائر البنوك في مختلف أنحاء العالم.
وناقش فضيلته الشبهات، فذكر قول بعضهم: إن الربا المحرم هو ربا الاستهلاك وليس ربا الإنتاج، فمن يقترض ليأكل أو يشرب أو يلبس ليس كمن يقترض ليبني مصنعاً أو يؤسس شركة تجارية، وهذا الكلام غير صحيح أيضاً، فالإسلام عندما جاء حرم الربا بكافة صوره سواء كان للتجارة أو الاستهلاك، وهل كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم (أشهر مرابٍ في الجاهلية) يفرق بين من يقترض منه للتجارة ومن يقترض منه ليأكل ويشرب؟
إن الإسلام حرَّم الربا كله بكافة صوره، واستمر د. القرضاوي في مناقشة المستحلين للحرام:
قال بعضهم: إن الربا المحرم هو الذي تكون فائدته أضعافاً مضاعفة انطلاقاً من قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً) (آل عمران: 130)، ورداً على هؤلاء، أوضح فضيلته أن جميع المفسرين من جميع المدارس والمذاهب اتفقوا على هذا القيد –الأضعاف المضاعفة– لبيان الواقع الذي كان عليه أهل الجاهلية، حيث كانوا يأكلون الربا عندما يبلغ أضعافاً مضاعفة، وهو الذي نسميه الآن بالربا المركب، وليس معنى هذا أن المحرم هو ربا الأضعاف المضاعفة فقط، ولو صح هذا لكان الربا المحرم هو الذي يبلغ 600%، وليس 10%، أو 20%، أو 30%.
وقال فضيلته: معلوم في اللغة أن ضعف الشيء هو مثله، والأضعاف أقلها ثلاثة، وإن كانت الأضعاف مضاعفة فأقلها ستة أضعاف، فهل الإسلام لا يحرم الربا إلا إذا كان ستة أضعاف؛ أي 600%؟
وأكد د. القرضاوي أن كل الذين حاولوا تبرير القول بحلال الربا في أول القرن الحالي سقطت شبهاتهم ولم يبق منها شيء، واستطاع المسلمون أن يتحرروا من عقدة تقليد الأجنبي، وأجمعوا على تحريم الربا سواء كان للاستهلاك أم للإنتاج، وسواء كان قليلاً أم كثيراً، والقاعدة الشرعية أن ما حرم كثيرة فقليله حرام، هكذا الإسلام إذا حرم شيئاً حرم قليله وكثيره، وهو بذلك يريد أن يفطم الناس عن الحرام، وأن يسد الباب أمام الحرام كلية.
الربا.. والأزمات الاقتصادية
وأشار فضيلته إلى أن علماء الاقتصاد ورجال البنوك في الغرب شهدوا بأن الربا سبب الأزمات الاقتصادية العالمية، ولا يمكن أن تنتهي المشكلات الاقتصادية إلا إذا أصبحت الفائدة صفرية؛ يعني بدون فائدة.
واستعرض أهم كتابات أساتذة الاقتصاد في حرمة الربا وأخطاره، وذكر منهم: د. محمد عبد الله العربي، أستاذ المالية بجامعة القاهرة، ود. عيسى عبده إبراهيم، ود. محمود أبو السعود، ود. أحمد النجار، وذكر إلى جوارهم كثيرين من علماء الشريعة الذين بيَّنوا لماذا حرم الله الربا، وأن الأمة لا بد أن ترفض الربا حتى لا تأذن بحرب من الله ورسوله، ولا تصاب في نفسها وأموالها وحياتها كلها.
وعبر د. القرضاوي عن أسفه لفتح ملف المعاملات الربوية بعد أن قال علماء الإسلام كلمتهم بحرمة التعامل بالربا، وقال: إن إثارة الشبهات التي فرغ العلماء من الرد عليها لا تجعل الربا حلالاً مهما تعددت صوره.
عودة إلى الحرام
وفي رده على ما قاله شيخ الأزهر د. محمد سيد طنطاوي من أنه لا توجد بنوك إسلامية وغير إسلامية، وأن فوائد البنوك حلال، قال د. القرضاوي: كيف يبيح لنفسه أن يهاجم بنوكاً قامت على أساس من الإسلام، واستقبلها المسلمون في كل أنحاء العالم بالترحاب، ويشرف عليها أجلة وكبار العلماء؟ كيف يأتي عالم مهما بلغ منصبه ويهاجم البنوك الإسلامية ويطالب بإلغائها؟
لقد خطونا خطوات نحو الحلال، فيريدنا أن نعود للحرام.
واعترف د. القرضاوي بأن في تجربة البنوك الإسلامية أخطاء تقل وتكثر من بنك إسلامي لآخر، وشهد بأن البنوك الإسلامية العاملة في قطر من أفضل البنوك الإسلامية في العالم؛ لأن فيها رقابة شرعية وتدقيقات داخلية، وأشار إلى أن هناك بنوكاً إسلامية أشد دقة، مثل بنك التقوى في سويسرا.
تحقق الحلم
واستعرض د. القرضاوي التجربة الإسلامية في إيجاد بديل للربا وهي البنوك التي لا تتعامل بالفوائد، وقد كانت حلماً مستحيلاً تحقق وأقيم أول بنك إسلامي في دبي، ومن بعده بنك فيصل الإسلامي المصري، وبنك فيصل الإسلامي السوداني، وبيت التمويل الكويتي، والبنك الأردني، وفي قطر بنكان إسلاميان، واتسعت الصحوة الإسلامية المعاصرة في المجال الاقتصادي، وأصبح أمام المسلم بدائل عن التعامل الحرام.
وأشار د. القرضاوي إلى أن البنوك الربوية شهدت على نفسها بأنها تزاول أعمالاً غير إسلامية، فأنشأت فروعاً للمعاملات الإسلامية في محاولة منها لمجاراة البنوك الإسلامية، فإذا كانوا هم اعترفوا بأن بنوكهم غير إسلامية، كيف يأتي عالم كبير ويقول: إنه لا فرق بين الإسلامية وغير الإسلامية ويصف البنوك الربوية بأنها إسلامية؟!
وعلق على قول شيخ الأزهر: بأنه يقف ضد البنوك التي لا تحدد الربح مقدماً، وقال: إن ذلك يخالف ما أجمع عليه علماء الأمة طوال تاريخها من أن تحديد الربح مقدماً لأحد الطرفين لا يجوز.
ووصف إعادة فتح ملف المعاملات الربوية وإعطاءه صكاً شرعياً بأنه “فتنة” دعا الله أن ينجي المسلمين منها، واستطرد موضحاً أن الإسلام ليس فيه “بابوات” مثل بابوات الكنيسة يقولون فلا يعترض عليهم أحد، وقال: ليس في الإسلام عالِم معصوم ما يحله في الأرض فهو حلال في السماء، وما يعقده في الأرض فهو معقود في السماء.
وأكد أن كل عالِم قابل للخطأ، وكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم، وخصوصاً إذا جاء هذا العالِم معارضاً لعلماء الأمة كافة.
هل يستطيع؟
وتساءل: هل يستطيع شيخ الأزهر أن يجمع أعضاء مجمع البحوث الإسلامية من مختلف البلاد وينظر في قضية “فوائد البنوك والمعاملات المصرفية”، ويصدر قراراً باسم المجمع يلغي ما أصدره المجمع من قبل عام 1965م، ويقول فيه: إن فوائد البنوك حلال، وليس كما قرر المجمع القديم؟
واختتم فضيلة د. القرضاوي تصريحاته بالدورة بتكرار أسفه لأن عالماً على رأس هيئة علمية إسلامية كبيرة وقع في خطأ “جلل” وأحلَّ الحرام والمنكر الخبيث!