بقلم: د. يوسف القرضاوي
لم تكن أتوقع أن تُحدث فتواي حول ما يسمى بـ “زواج المسيار” هذه الضجة في البلاد العربية عامة، وهذا شأن كل أمر جديد على الناس، يختلفون فيه عامتهم وخاصتهم، حتى يستقروا على رأي موحد، أو يظل الخلاف قائماً.
وأود أن أشير هنا إلى أن اختلاف الرأي بين علماء الأمة في فروع المسائل لا يُقلق مخلصاً، ولا يزعج مؤمناً، ما دام الاختلاف قائماً على تعدد زوايا الرؤية، وعلى تفاوت الأدلة والاعتبارات التي يستند إليها كل فريق، وليس مبنياً على اتباع هوى النفس، أو أهواء الغير، فإن اتباع الأهواء يغبش الرؤية ويضل عن الحق؛ (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (القصص: 50).
فالآراء المؤسسة على الهوى هي التي تزعج المؤمنين الصادقين، وكذلك الآراء التي تصدر ممن سماهم الرسول الكريم “رؤساء جهالاً، إذا سئلوا أفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا”.
أما الاختلاف فيما وراء ذلك فهو ضرورة ورحمة وسعة، كما بينتُ ذلك بأدلته وأمثلته مفصلاً في كتابي “الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفريق المذموم”.
وسيظل الناس يختلفون في كثير من القضايا المستجدة، كما اختلفوا في كثير من القضايا القديمة، ما بين مانع ومجيز، وما بين مضيّق وموسّع، ولهذا اختلف الأئمة الأربعة بين بعضهم وبعض، وخالفهم أصحابهم في كثير من المسائل، واختلف أتباع كل مذهب بعد ذلك في تصحيح الأقوال والروايات والوجوه أو تضعيفها، أو ترجيح بعضها على بعض، كما اختلف شيوخ الأئمة الأربعة من التابعين وأتباعهم، واختلف قبلهم شيوخ هؤلاء جميعاً من فقهاء الصحابة رضوان الله عليهم، وعرف تراثنا ما سماه “شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس، وشواذ ابن مسعود”، ولم يمنع ذلك من بعدهم من علماء الأمة أن ينتفعوا بعلم هؤلاء ويقتبسوا من أنوارهم، التي استمدوها من مشكاة النبوة.
ولقد قال لي بعض الأصدقاء: لقد أغضبت أكثرية النساء في قطر، وكن جميعاً معك في كل ما تقول، أما كان الأولى بك أن تفعل مثل ما فعل فلان وفلان وغيرهما، الذين كسبوا رضا النساء والبنات بالوقوف ضد زواج المسيار؟!
قلت لهؤلاء: إن العالم إذا أصبح همه إرضاء طوائف الناس –وإن أسخط ربه– فقد ضل سعيه، وخسر نفسه، وأضاع دينه، ولن يرضى الناس كلهم يوماً، وقد قيل: رضا الناس غاية لا تدرك.
ولنعد إلى الموضوع –بعد أن سكتت الزوبعة إلى حد ما– لنقول فيه كلمة هادئة محررة، عسى أن تكون كلمة فاصلة في الموضوع.
وهنا أسئلة مثارة يلزمنا الجواب عنها حتى نكشف النقاب عن وجه القضية، وتبدو واضحة جلية، وهي: ما حقيقة زواج المسيار هذا؟ وما معنى المسيار؟ وهل هذا زواج جديد لم يعرفه الناس قبل هذا حتى يحدث هذه الضجة؟ وهل هو شيء غير الزواج العرفي الذي عرفه الناس من قديم؟ وهل أجزتموه مطلقاً أم أجزتموه بشروط وضوابط؟ وما هذه الضوابط والشروط؟ وهل هذا الزواج يحقق كل أهداف الزواج الشرعي كما يريده الإسلام؟ وما الفرق بينه وبين زواج المتعة؟ وما الفرق بينه وبين زواج المحلل؟ وقبل ذلك لم اختلف فيه بعض العلماء؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي تعن للكثيرين والكثيرات.
لا أحبذ زواج المسيار
وأبدأ كلمتي هذه بحقيقة أعلنتها في برنامج “الشريعة والحياة” الذي تبثه قناة “الجزيرة”، وهي أني لست من دعاة “زواج المسيار”، ولا من المرغّبين فيه، فلم أكتب مقالة في تحبيذه أو الدفاع عنه، ولم أخطب خطبة تدعو إليه، كل ما في الأمر أني سئلت سؤالاً عنه، فلم يسعني أن أخالف ضميري أو أتاجر بديني، أو أشتري رضا الناس بسخط ربي، فأحرّم ما أعتقد أنه حلال لمتابعة أهواء العامة.
ولقد ذكرت في بعض كتبي: أن من أخطر آفات أهل العلم وأهل الفتوى خاصة أمرين؛ أولهما: اتباع أهواء السلاطين والحكام، وتفريخ الفتاوى تبريراً لمظالمهم وانحرافاتهم.
وثانيهما: اتباع أهواء عامة الناس وجماهيرهم، والدخول في “سوق المزايدات” حسب الرائج عندهم، فإن كان الرائج هو التشدد والتطرف تشدد وتطرف أكثر منهم، وإن كان الرائج هو التساهل كان أكثر تساهلاً.
ولقد بينت أن العالِم الذي يتبع أهواء الجمهور أشد خطراً على الدين، من العالِم الذي يتبع هوى السلطان، فإن هذا سرعان ما يكشف ويفتضح أمره، أما الآخر فظاهره التحمس للدين، والحرص عليه والتشدد فيه، فلا يُكتشف إلا بصعوبة، ولا يعرف زيفه إلا أصحاب البصائر، أما العامة فهم محجوبون بظاهره عن حقيقته.
إن زواج المسيار كما يسمى ليس شيئاً جديداً، إنما هو أمر عرفه الناس من قديم، وهو الزواج الذي يذهب فيه الرجل إلى بيت المرأة، ولا تنتقل المرأة إلى بيت الرجل، وفي الغالب، تكون هذه وزوجة ثانية، وعنده زوجة أخرى هي التي تكون في بيته وينفق عليها.
فروح هذا الزواج هو إعفاء الزوج من واجب المسكن والنفقة والتسوية في القسم بينها وبين زوجته الأولى أو زوجاته تنازلاً منها، فهي تريد رجلاً يعفها ويحصنها ويؤنسها، وإن لم تكلفه شيئاً، بما لديها من مال وكفاية تامة.
وقد كان هذا في الأزمنة الماضية قليلاً، فقد كان الزواج سهلاً ميسراً، ولم تكن هناك عوائق مادية ولا اجتماعية كالتي نراها في عصرنا، وكان قليل من النساء من لهن مال خاص جاءهن عن طريق الميراث في الغالب، ولهذا لم ينتشر كثيراً هذا النوع من الزواج الذي تتنازل فيه المرأة الموسرة عن بعض حقوقها.
أما في زمننا، فقد كثرت عوائق الزواج، ومعظمها مما كسبت أيدي الناس، ونشأ عن ذلك كثرة العوانس، اللاتي فاتهن القطار، وعشن في بيوت آبائهن محرومات من الحق الفطري لهن في الزواج وفي الأمومة، إضافة إلى المطلقات، وهن للأسف كثيرات، وإلى الأرامل اللاتي مات عنهن أزواجهن، وخلفوهن وحيدات، أو مع أطفال، وكثيراً ما يكون معهن ثروة ومال.
كما أن الأوضاع في عصرنا قد أعطت كثيراً من النساء فرصة ليكون لهن موارد خاصة بهن من كسبهن المشروع.
فكل هذه الأسباب أدت إلى شيوع نسبي لهذا النوع من الزواج الذي سموه “زواج المسيار”، وأنا لا أعرف معنى المسيار، فهي ليست كلمة معجمية فيما رأيت، إنما هي كلمة عامية دارجة في بعض بلاد الخليج، يقصدون منها: المرور وعدم المكث الطويل.
عندما سئلت عن هذا الزواج قلت: أنا لا يهمني الأسماء، فالعبرة في الأحكام ليست بالأسماء والعناوين ولكن بالمسميات والمضامين، وفي القواعد الشرعية لمجلة الأحكام العدلية الشهيرة: “العبرة في العقود للمقاصد والمعاني وليست للألفاظ والمباني”، سموا هذا الزواج ما تسمونه، ولكن المهم عندي أن تتحقق أركان عقد الزواج وشروطه.
وأول أركان عقد الزواج هو الإيجاب والقبول، ممن هو أهل للإيجاب والقبول، وأن يتحقق الإعلام والإعلان به، حتى يتميز عن الزنى واتخاذ الأخدان، الذي يكون دائماً في السر، وهناك حد أدنى في المشروع لهذا الإعلان، وهو وجود شاهدين، ووجود الولي في رأي المذاهب الثلاثة المعروفة: مالك، والشافعي، وأحمد.
وألا يكون هذا الزواج مؤقتاً بوقت، بل يدخله الرجل والمرأة بنية الاستمرار.
وأن يدفع الرجل للمرأة مهراً، قلَّ أو كثر، وإن كان لها بعد ذلك أن تتنازل عن جزء منه أو عنه كله لزوجها إذا طابت نفسها بذلك، كما قال تعالى: (وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً) (النساء: 4).
بل لو تزوجت بغير مهر صح العقد، وكان لها مهر مثلها.
فإذا وجدت هذه الأمور الأربعة: الإيجاب والقبول من أهلهما، والإعلام ولو في حده الأدنى، وعدم التأقيت، والمهر، ولو تنازلت عنه المرأة بعد ذلك فالزواج صحيح شرعاً، وإن تنازلت المرأة فيه عن بعض حقوقها، ما عدا حق الجماع الذي لا يجوز أن يشرط في العقد؛ لأنه شرط ينافي مقصود العقد فيبطله.
ولا يملك الفقيه أن يبطل مثل هذا العقد المستوفي لأركانه وشروطه أو يعتبر هذا الارتباط لوناً من “الزنى” لمجرد تنازل المرأة فيه عن بعض حقوقها، فهي إنسان مكلف، وهي أدرى بمصلحتها، وقد ترى في ضوء فقه الموازنات بين المصالح والمفاسد أن زواجها من رجل يأتي إليها في بعض الأوقات من ليل أو نهار أولى وأفضل من بقائها وحيدة محرومة أبد الدهر، والعاقل الحكيم هو الذي يعرف خير الشرين، ويرتكب أخف الضررين، ويفوت أدنى المصلحتين.
فهل يجوز للمرأة أن تتنازل عن بعض حقوقها؟ وهل يؤثر هذا في صحة العقد؟ أعتقد أن فقيهاً لا يمكن أن يمنع المرأة من التنازل عن بعض حقوقها بمحض إرادتها لمصلحتها هي، التي تقدرها، وهي امرأة بالغة عاقلة رشيدة ليست طفلة ولا سفيهة.
وإذا أخذنا بمذاهب الأئمة الثلاثة الذين يشترطون وجود الولي أو إذنه –وهو المعمول به في بلاد الخليج، حيث ينتشر المذهب المالكي والحنبلي– فمع المرأة أيضاً وليها من أب أو أخ، ولا يتصور أن يرضى لها الضياع أو الهوان.
ولا يخفى أن في الحياة –كما نشاهدها– عوامل وأسباباً، تجعل الإنسان يتنازل عن بعض حقوقه، تحصيلاً لما هو أهم منها.
وقد رأينا السيدة سودة بنت زمعة، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خديجة، وقد كانت امرأة كبيرة في السن، وقد أحست أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعد يُقبل عليها كما كان من قبل، وخافت أن يطلقها وتحرم من أمومة المؤمنين، ومن أن تكون زوجته في الجنة، فبادرت وأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنازلها عن يومها لعائشة رضي الله عنها، فحمد لها الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك وأبقاها في عصمته، وصدق ذلك قول الله تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) (النساء: 128).
وأنا أفضّل ألا يذكر مثل هذا التنازل في صلب العقد، وأن يكون أمراً متفاهماً عليه عرفاً، على أن ذكره في صلب العقد لا يبطله، وأرى وجوب احترام هذه الشروط، كما جاء في الحديث المشهور: “المسلمون عند شروطهم”، وهو ضرب من الوفاء بالعهد الذي أمر به الله ورسوله، وفي الصحيحين: “أحق الشروط أن توفوا به، ما استحللتم به الفروج”؛ أي شروط النكاح.
وهناك من الفقهاء من يرى أن مثل هذه الشروط لا تلزم، بل يصح العقد ويبطل الشرط، وهو قول أبي حنيفة ورواية عن أحمد، وهو ما اختاره في “المقنع” وغيره، فقد ذكر النوع الثاني من الشروط وهو: أن يشترط ألا مهر لها ولا نفقة، أو أن يقسم لها أكثر من امرأته الأخرى، أو أقل، فالشرط باطل ويصح النكاح.
قال في “الإنصاف”: وكذا لو شرط أحدهما عدم الوطء، وهذا المذهب نص عليهما، وقيل: يبطل النكاح أيضاً، وقيل: يبطل إذا شرطت ألا يطأها، قال ابن عقيل في مفرداته: ذكر أبو بكر –فيما إذا شرط ألا يطأ، أو لا ينفق، أو إن فارق رجع بما أنفق– روايتين، يعني في صحة العقد.
قال الشيخ تقي الدين (أي ابن تيمية): “ويحتمل صحة شرط عدم النفقة، قال: لا سيما إذا قلنا: إنه إذا أعسر الزوج ورضيت به، أنها لا تملك المطالبة بالنفقة بعد، واختار –فيما إذا شرط ألا مهر– فساد العقد، وأنه قول أكثر السلف، واختار أيضاً الصحة، فيما إذا شرط عدم الوطء، كشرط ترك ما يستحقه”.