انتشرت في عصرنا ظاهرة غريبة لم تكن تعرفها مجتمعاتنا من قبل، وهي منقولة من المجتمع الغربي؛ وهي ظاهرة الجوائز الكبيرة التي تُرصد للمشتركين فيها.
وهؤلاء المشتركون يحملون “كوبونات” بعضها يباغ بقيمة معينة، مثل مائة دولار، أو ألف درهم أو ريال أو غير ذلك من العملات، أو أقل أو أكثر، وقد يشتري الشخص “كوبوناً” أو أكثر، فكلما اشترى أكثر كانت فرصته أكبر في الحصول على الجائزة السيارة المرسيدس، أو كيلو الذهب، أو غيرهما، مما يغري الناس ويسيل لعابهم.
وبعض هذه “الكوبونات” تعطيها المحلات التجارية، أو محطات البنزين ونحوها، لمن يشتري من عندها بمبلغ معين، فكل مبلغ يعطى به “كوبنا” يشارك به في احتمال الحصول على الجائزة.
وفي وقت محدد يعلن بطريق الحظ والقرعة عن الفائز بالجائزة الكبرى.
وقد كثرت أسئلة الناس عن الحكم الشرعي في هذه المسائل، ووقع المتدينون في حيرة أمام تضارب المفتين ما بين محلّل ومحرّم.
والواجب على أهل العلم أن يبينوا موقف الشرع من هذه القضية بالأدلة من النصوص وقواعد الشريعة ومقاصدها، ليهلك من هلك عن بيّنة، ويحيا من حي عن بيّنة.
وجواباً عن هذه التساؤلات، أقول: إن الصورة المقبولة شرعاً للجوائز هي ما يرصد للتشجيع والتحريض على علم نافع، وعمل صالح، كالجوائز التي ترصد للفائزين في مسابقات حفظ القرآن الكريم، أو للتفوق الدراسي، أو للنبوغ والعطاء المتميز في المجالات الإسلامية والعلمية والأدبية ونحوها، مثل جائزة الملك فيصل العالمية وغيرها مما ترصده الحكومات أو المؤسسات أو الأفراد لهذه الجوانب، إغراء بالتنافس المشروع، والتسابق المحمود في الخيرات.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سبق بين الخيل، وأعطى السابق، كما أعطى صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة إقطاعات معينة مكافأة لهم على خدمات أدوها للإسلام وأهله.
فهذه الصورة من الجوائز ترصد لمن يستجمع شروطاً معينة، فإذا وجد من جاز شروط الاستحقاق، كما تقرر ذلك اللجنة المختصة؛ فقد استحق الجائزة، ولا حرج في ذلك ولا خلاف.
أما الصورة الأخرى بنوعيها اللذين تضمنهما العرض أو السؤال فنجمل الجواب عنها فيما يلي، مفرقين بين النوعين المذكورين.
نوع محرم بلا نزاع
النوع الأول: من هذه الجوائز لا شك في حرمته، وهو الذي يشتري فيه الشخص “الكوبون” بمبلغ ما قلَّ أو كثر في غير مقابل، إلا ليشارك في السحب على الجائزة المرصودة، أياً كانت سيارة، أو ذهباً أو نقوداً، أو غير ذلك.
بل هذا من كبائر المحرمات، لأنه من الميسر أو القمار، الذي قرنه الله تعالى في كتابه بالخمر، واعتبرهما رجساً من عمل الشيطان، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة: 90)، وقال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا) (البقرة: 219).
والقمار أو الميسر ما لا يخلو فيه أحد الطرفين من خسارة، وهنا نجد آلاف الناس أو عشرات الآلاف، وفي بعض الأحيان الملايين من الناس، كما في اليانصيب العالمي، أو ما يسمى “اللوتري”، كلهم يخسرون ويكسب واحد فقط.
إن الإسلام حرَّم هذا الميسر؛ لأنه يعود الناس ابتغاء الكسب بغير جهد وكد بيمين، أو عرق جبين، والاعتماد على ضربة الحظ يدخل بها في عداد الأغنياء من غير الطريق الذي سنَّه الله في كونه وشرعه، وعرفه الأسوياء من الناس: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ) (الملك: 15)، (فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ) (الجمعة: 10)
المهم أن هذا النوع لا يشك عالم في حرمته، وإن كانت حصيلته تنفق في جهة من جهات الخير؛ كالإنفاق على اليتامى أو المعوقين أو الفقراء أو نحوهم.
فالإسلام لا يقبل الوصول إلى الخير بالشر، ولا نصر الحق بالباطل، وهو حريص أبداً على شرف الغاية، وطهر الوسيلة، ولا يرضى تحقيق الغاية الشريفة إلا بالوسيلة النظيفة، فهو يرفض مبدأ الغاية تبرر الوسيلة.
وفي الحديث الشريف الذي رواه مسلم: “إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً”.
وفي حديث ابن مسعود عند أحمد: “إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث”.
وقال علماؤنا: مثل الذي يكسب المال من حرام ثم يتصدق به، كمثل الذي يطهر النجاسة بالبول، فلا يزيدها إلا خبثاً.
النوع المختلف فيه
والنوع الآخر هو الذي يأخذ الإنسان فيه الكوبون مقابل سلعة اشتراها من متجر، أو عبأ سيارته بنزيناً من محطة بترول، أو دخل مباراة للكرة مقابل مبلغ يدفعه، فأُعطي به “كوبوناً” أو نحو ذلك.
فهذا موضع خلاف بين العلماء في عصرنا، فالكثيرون من العلماء يجيزون هذا التعامل، وإن لم أقرأ لأحدهم بحثاً في ذلك، وإن كان بعضهم يقول: إن الأصل في المعاملات هو الإباحة ما لم يرد نص صحيح صريح يدل على علة التحريم.
وقد علمت أن سماحة العلاَّمة الشيخ عبد العزيز بن باز أفتى بحرمة هذه الجوائز، ولم يتح لي أن أقرأ نص فتواه، وهو تقصير مني.
وأنا أؤيد الشيخ ابن باز فيما أفتى به، وقد كنت أميل من قبل إلى إجازته مع الكراهة، ثم ترجح لي الآن الميل إلى تحريمه، وذلك لعدة أوجه.
معاملة تحمل روح الميسر
الوجه الأول: أن هذا التعامل، وإن لم يكن عين الميسر والقمار، ففيه روح الميسر والقمار، وهي الاعتماد على الحظ، لا على السعي وبذل الجهد وفق سنن الله في الكون وشبكة الأسباب والمسببات وما شرع الله لعباده؛ من العمل في الزراعة والصناعة والتجارة والحرف المختلفة، إن مهمته أن ينتظر أن تهبط عليه من السماء جائزة تغنيه من فقر، وتعزه من ذل، وتنقله من طبقة إلى طبقة، دون أن يبذل مجهوداً، أو يعطي الحياة كما أخذ منها.
هذه الروح؛ روح الاتكال على حظ يميزه عن الناس بغير عمل، هي ما يرفضه الإسلام ولا يحبه لأتباعه، إنما يحب لهم أن يعملوا ويكدحوا ويشقوا طريقهم في السهل والجبل بأيديهم.
لقد حرَّم الرسول الكريم النرد، وهي لعبة فارسية الأصل، وقال: “من لعب النرد فقد عصى الله ورسوله”، وفي رواية: “من لعب النردشير فكأنهما صبغ يده في لحم خنزير ودمه”، وما ذلك إلا لأنه يقوم على الحظ لا على عمل العقل، ولا عمل البدن.
ولم يصح حديث في تحريم الشطرنج؛ لأنه يخالف النرد في أنه يقوم على التفكير وإعمال الذهن.
والذين حرَّموا الشطرنج حرموه لأسباب أخرى: أنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويلهي عن الواجبات.
معاملة تُذْكي الأنانية وتنافي روح الأخوة
الوجه الثاني: أن هذا السلوك يُذْكي نزعة الأنانية والأثرة عند الإنسان، ولهذا كان إفرازاً من إفرازات الرأسمالية الغربية، التي تقوم أول ما تقوم على إذكاء النزعة الفردية وتقويتها، ولو كان ذلك على حساب الآخرين ومصالحهم ووجودهم المادي أو الأدبي.
ومن هنا، عرف النظام الرأسمالي بهذا التنافس الشرس الذي لا يبالي فيه التاجر أن يسحق الآخرين، فالتجارة في هذا النظام لها مخالب وأنياب تفترس وتقتل، ولا تترحم على من تقتله.
ومن أجل هذا يسعى كل واحد أن يجذب إليه العملاء والزبائن بكل ما يمكنه من ألوان الدعاية والإعلان والإغراءات، ولو خربت بيوت الأغيار، وأغلقت متاجرهم، شعار كل منهم “أنا وليمت من يموت”.
هذا التوجه مناقض تماماً لتوجه الإنسان المسلم الذي علمه الإسلام ألا ينفع نفسه بضرر غيره، فلا ضرر ولا ضرار، وتعلم من كتاب ربه: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2)، (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9)، وتعلم من رسوله قوله: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” (متفق عليه).
ولقد كان التاجر في العصور القريبة في بعض البلاد الإسلامية إذا رأى محله قد جاءه زبائن كثيرة، ورأى جاره لم يدخل عليه أحد، يوصي زبائنه أن يذهبوا إلى محل جاره، فعنده من البضاعة ما عنده.
وبعضهم كان يغلق دكانه إذا باع ما يكفيه وعياله، ليتيح الفرصة لجاره أن يكسب مثل ما كسب.
فأين هذه الروح الأخوية الإيثارية من تلك الروح الأنانية التي تريد أن تحيي نفسها ولو بإماتة الآخرين؟
ويل للتاجر الصغير في هذه السوق الجشعة، ستدوسه أقدام الكبار وتفرمه عجلاتهم الجبارة حيث لا يملك أن ينافسهم في رصد مثل هذه الجوائز الكبيرة المغرية للطامعين من الخلق، وما أكثرهم!
الوجه الثالث: أن قيمة الجوائز الكبيرة –في التحليل النهائي– تؤخذ من مجموع المستهلكين؛ أعني: أن التاجر يستطيع أن يبيع السلعة بتسعين أو ثمانين، ولكن العشرة أو العشرين هذه يقتطعها من المشترين أو المستهلكين، حين يبيع السلعة بمائة كاملة، وما اقتطعه من هؤلاء وهم جملة ألوف أو عشرات ألوف، تُشترى به الجائزة الثمينة، ليأخذها واحد منهم فقط ولا يصيب الآخرين منها شيء إلا التمني!
ومعنى هذا عند التحقيق: أننا ظلمنا مجموع المستهلكين وبعنا لهم السلعة بأكثر مما ينبغي لكي نشبع رغبة واحد منهم فقط بإعطائه ما لم يتعب فيه.
قد يقال: إن هذا تم برضا الجميع، وأنا أقول: إن القمار يتم برضا الطرفين، والربا يتم أبداً برضا الطرفين، والرضا هنا لا ينافي ما وقع من ظلم يدركه أولو البصائر.
لا يقال: إن مبلغ هذه الجائزة الكبيرة إنما أخذ من ربح التجار، وليس من مجموع المستهلكين فهذا مخالف للواقع، فإن التاجر يقدر لنفسه ربحاً معيناً أو نسبة معينة إلى رأس المال، وهو يأخذها ويوفرها لنفسه قبل كل شيء.
أما هذه الجوائز فهي شيء آخر بعدما أخذ لنفسه ما أخذ، رصده لجذب عدد أكثر وأكثر من المشترين والمستهلكين.
إن الوسيلة الصحيحة المقبولة شرعاً لترويج السلعة وتوسيع تسويقها، هي: العمل على جودتها وإتقانها إلى أفضل حد ممكن، ثم العمل على إرخاص سعرها بالقدر المستطاع؛ تخفيفاً عن الناس، ولا سيما المستضعفين منهم.
أما هذه الجوائز ونحوها فتعمل على ترويج السلعة بعوامل خارجة عن السلعة، ولا علاقة لها بجودتها ولا برخصها.
وهذا للأسف هذا وجه الرأسمالية التي تنفق على الدعاية والإعلان 30% أو أكثر أو أقل، وكل هذا في النهاية يكون عبئاً على المستهلك المسكين، وهذا ما ينبغي أن نعارضه.
تحريض الناس على الإسراف
الوجه الرابع: أن رصد هذه الجوائز الكبيرة تهدف إلى تحريض الناس على كثرة الاستهلاك، والمزيد من اشتراء السلع، ولو لم يكن لهم حاجة حقيقية إليها، وهذا هو توجه الحضارة الرأسمالية الغربية، التي سماها بعضهم حضارة الاستهلاك.
فلسفة هؤلاء مناقضة لفلسفتنا، ومنهجهم مخالف منهجنا، منهجنا يقوم على القصد والاعتدال في الإنفاق، وتحريم الإسراف: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف)، (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان: 67)، وكان عمر يقول: أو كلما اشتهيتم اشتريتم؟
ومنهج أولئك القوم يقوم على إغراء الناس بالإسراف في الاستهلاك، وشراء سلعهم، وإن كان لديهم ما يغني عنها، حتى إن المرء يشتري بالدَّيْن أو بالأقساط ويحمّل نفسه أكثر من طاقتها، بإعلاناتهم المثيرة وجوائزهم المغرية، والدَّيْن هم بالليل ومذلة بالنهار، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ من ضلع الدَّيْن؛ أي من ثقل الدَّيْن وشدته.
وكان كثيراً ما يقول في دعائه: “اللهم أعوذ بك من المأثم والمغرم”، فقيل له: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم يا رسول الله؟ فقال: “إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف”.
بل رأينا من يستدين من البنوك الربوية بالفوائد، يتقحم النار على بصيرة ليشتري أشياء ليست ضرورية، ولا حاجية، بل هي كماليات ربما كان عنده مثلها، ولكنه وقع تحت سحر الإغراء، فاستجاب له وضعفت إرادته أمام هذا التحريض المنظم الذي هو أشبه بالغزو لعقل الإنسان وإرادته حتى يستسلم.
وإذا كان من الأقوال المأثورة عندنا: أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا باعوا لم يمدحوا، وإذا اشتروا لم يذموا، فهؤلاء القوم إذا باعوا بالغوا في مدح سلعهم الجديدة، وذم سلع غيرهم، أو حتى سلعهم القديمة، حتى يعمد الإنسان إلى إطراح ما عنده واقتناء الجديد.
وإذا كان من القواعد الشرعية أن ما أدى إلى الحرام فهو حرام، وأن سد الذرائع إلى المفاسد والمحرمات واجب، وكانت هذه الجوائز الكبيرة ذريعة إلى الإسراف المحرم، والاستدانة المذمومة، كان الواجب سد الذريعة إلى هذا الفساد، والإفتاء بتحريم هذا التصرف محافظة على أموال المسلمين وعلى أخلاقهم.
نحن أمة متميزة
وهناك اعتبار أخير وهو أننا أمة لها هويتها المتميزة وشخصيتها المستقلة، وقد خلقنا الله رؤوساً، ولم يجعلنا أذناباً لغيرنا، فليس مطلوباً ولا مقبولاً منا أن نأخذ كل ما عند الغرب من أعراف ومعاملات، وننقلها بحذافيرها إلى مجتمعاتنا، وقد لا تتفق مع مفاهيمنا وقيمنا، وأحكامنا الشرعية، بل الواجب علينا أن نتقي الله فيما ننقله، ولا نتبع سنن القوم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، وهو ما حذر منه الحديث النبوي الصحيح.
الخلاصة: أن هذه الجوائز المستوردة إلى مجتمعاتنا المسلمة ليس وراءها مصلحة حقيقة للمجتمع، إنما يستفيد منها الذين يرصدونها من كبار التجار، الذين يحصلون عليها بطريق الحظ من الطامعين.