لم تكن أهداف دعوة الإخوان، كما رسمها الإمام البنا، غائمة أو غامضة، بل كانت واضحة وضوح الشمس للقيادة وللقاعدة، وكان الجميع يعلمون علم اليقين مدى ضخامة هذه الأهداف، ومدى سعتها، لقد كانت أهداف دعوة الإخوان كبيرة وواسعة، فلم تقتصر على الجانب الفكري كما هو شأن النخبة من المثقفين الذين يعنون بتنوير العقول فقط، وإن كان تنوير العقول وتثقيفها وتوعيتها بالإسلام الصحيح من أبرز الأهداف لدى جماعتهم.
ولم تقتصر أهداف الإخوان على الجانب الروحي أو الرباني، كما هو شأن أهل السلوك والتربية الروحية والإيمانية من الصادقين من رجال التصوف الملتزم، وإن كان في رأس برنامجهم، ومن أوائل ما يهتمون به، فإن صلاح الإنسان بصلاح قلبه، ولم تقتصر أهداف الإخوان على الجانب الاجتماعي، وتحقيق العدالة الاجتماعية والتكافل الاجتماعي، ومنع التظالم بين الناس، حتى لا يأكل القوي الضعيف، أو الغني الفقير، كما هي دعوة الاشتراكيين وغيرهم، وإن كان العدل والتكافل وتقريب الفوارق من أول ما سعى إليه الإخوان، ولم تقتصر أهداف الإخوان على الجانب الاقتصادي والتنموي، وعدالة التوزيع، واستقامة التداول، وإن كان هذا الإصلاح الاقتصادي من المعالم الرئيسة في برنامج الإخوان، بالإضافة لدعوتهم إلى تحرير الاقتصاد من التبعية، وقيام اقتصاد وطني قوي، ولم تقتصر أهداف الإخوان على الجانب السياسي، الذي يعني به عادة زعماء الأحزاب السياسية، وإن كان هذا الجانب في طليعة ما دعا إليه الإخوان، من وجوب تحرير الوطن من كل سلطان أجنبي وتحقيق مطالب الشعب في تحكيم شريعته، وتحريره من آثار التبعية التشريعية والثقافية وغيرها، ولم يكن هدف الإخوان مقصوراً على مصر الوطن الأول، الذي نشأت فيه الحركة، ومنه انطلقت إلى غيره من البلدان، وإن كانت مصر تحظى بالنصيب الأكبر من التفكير والاهتمام والجهد، لأنها الوطن الأم للجماعة أولاً، ولما لها من أثر ومكانة في تاريخ الإسلام والعرب ثانياً، ولما يعلق عليها من آمال ثالثاً، بل اتسعت هذه الأهداف، لتشمل الوطن العربي من الخليج إلى المحيط، والوطن الإسلامي من المحيط إلى المحيط، من المحيط الهادئ إلى المحيط الأطلسي، أو من جاكرتا شرقاً إلى مراكش غرباً، فقد كان الإخوان يعنون بقضايا العالم العربي، والعالم الإسلامي جميعاً، فهم يعتبرون كل أرض ترتفع فيها المآذن، ويهتف فيها المؤذنون: الله أكبر، الله أكبر، ويعيش فيها المسلمون، توجب عليهم حقوقاً للدفاع عنها، ورد العدوان عليها، والذود عن حرماتها، وتحريرها من كل سلطان غاصب معتد عليها، ثم معاونتها لتقيم الإسلام في ربوعها؛ عقيدة وشريعة، إيماناً وعملاً، دعوة ودولة، قرآناً وسلطاناً، ولتستطيع أن تنهض وتنمو وترقى في كل المجالات.
ثم لم يقف الإخوان عند هذا الحد، فهم يؤمنون أن رسالة الإسلام ليست لجنس دون جنس، ولا لإقليم دون إقليم، ولا لطبقة دون طبقة، أو لسان دون لسان، بل هي دعوة عالمية لكل الأجناس والألوان، ولكل الشعوب والأوطان، لكل الألسنة والطبقات، كما قال تعالى لرسوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) (الأعراف: 158)، وقال: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) (الفرقان: 1)، هكذا كانت أهداف الإخوان شاملة شمول الإسلام، فضمت الجانب العقلي، والجانب الروحي، والجانب الجسمي، والجانب التربوي، في حياة الفرد، كما ضمت الجانب الأسري، والجانب الاجتماعي، والجانب الاقتصادي، والجانب السياسي، في حياة المجتمع الوطني والعربي والإسلامي والعالمي.
أهداف أساسية
وقد عبر عن ذلك مؤسس الجماعة، حين قال: نريد الفرد المسلم، والبيت المسلم، والشعب المسلم، والحكومة المسلمة، والأمة المسلمة، وتبليغ الدعوة في العالم.
ولا أجد أبلغ من تعبير حسن البنا عن ذلك إذ يقول في رسالته “إلى الشباب”: إن منهاج الإخوان المسلمين محدد المراحل، واضح الخطوات، فنحن نعلم تماماً ماذا نريد ونعرف الوسيلة إلى تحقيق هذه الإرادة.
1- نريد أولاً: الرجل المسلم في تفكيره وعقيدته، وفي خلقه وعاطفته، وفي عمله وتصرفه، فهذا هو تكويننا الفردي.
2- ونريد بعد ذلك: البيت المسلم في تفكيره وعقيدته وفي خلقه وعاطفته، وفي عمله وتصرفه، ونحن لهذا نعني بالمرأة عنايتنا بالرجل، ونعني بالطفولة عنايتنا بالشباب، وها هو تكويننا الأسري.
3- ونريد بعد ذلك: الشعب المسلم في ذلك كله أيضاً، حتى تصل دعوتنا إلى كل بيت، وأن يسمع صوتنا في كل مكان، وأن تتيسر فكرتنا وتتغلغل في القرى والنجوع والمدن والحواضر والأمصار، لا نألو في ذلك جهداً، ولا نترك وسيلة.
4- ونريد بعد ذلك: الحكومة المسلمة، التي تقود هذا الشعب إلى المسجد، وتحمل به الناس على هدى الإسلام من بعد، كما حملتهم على ذلك بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر، وعمر، من قبل.
5- ونريد بعد ذلك: أن نضم إلينا كل جزء من وطننا الإسلامي الذي فرقته السياسة الغربية، وأضاعت وحدته المطامع الأوروبية، ونحن لهذا لا نعترف بهذه التقسيمات السياسية، ولا نسلم بهذه الاتفاقات الدولية، التي تجعل من الوطن الإسلامي دويلات ضعيفة ممزقة، يسهل ابتلاعها على الغاصبين، ولا نسكت على هضم حرية هذه الشعوب واستبداد غيرها بها.
6- نريد بعد ذلك أن تعود راية الله خفاقة عالية على تلك البقاع التي سعدت بالإسلام حيناً من الدهر، ودوى فيها صوت المؤذن بالتكبير والتهليل.
7- نريد بعد ذلك ومعه أن نعلن دعوتنا على العالم، وأن نبلّغ الناس جميعاً، وأن نعم بها آفاق الأرض، وأن نخضع لها كل جبار، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم.
الأهداف القريبة والأهداف البعيدة
ويخشى المرشد المؤسس رحمه الله أن يظن بعض الناس أن الإخوان مجرد جمعية من جمعيات النفع العام، أو خدمة المجتمع، وهي كذلك في بعض جوانبها، وجزء من نشاطها، ولكنه ينفي بقوة أن يكون ذلك هو لب فكرتها، وغاية سعيها، ومحور وجودها، ففرق في أكثر من مناسبة بين الأهداف والغايات القريبة التي يشترك فيها الإخوان مع غيرهم، والغايات البعيدة التي يتميزون بها عمن سواهم، في وضوح لا لبس فيه ولا غموض، بيَّن الأستاذ البنا أن الإخوان المسلمين يعملون لغايتين:
غاية قريبة، وتظهر ثمرتها لأول يوم ينضم فيه الفرد إلى الجماعة، أو تظهر الجماعة الإخوانية فيه في ميدان العمل العام.
وغاية بعيدة، لا بد فيها من ترقب الفرص، وانتظار الزمن، وحسن الإعداد، وسبق التكوين.
فأما الغاية الأولى فهي المساهمة في الخير العام أياً كان لونه ونوعه، والخدمة الاجتماعية كلما سمحت بها الظروف.
يتصل الأخ بالإخوان، فيكون مطالباً بتطهير نفسه، وتقويم مسلكه، وإعداد روحه وعقله وجسمه للجهاد الطويل، الذي ينتظره في مستقبل الأيام، ثم هو مطالب بأن يشيع هذه الروح في أسرته وأصدقائه وبيئته، فلا يكون الأخ أخاً مسلماً حقاً حتى يطبق على نفسه أحكام الإسلام، ويقف عند حدود الأمر والنهي، التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا {8} قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا {9} وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) (الشمس)، وتتكون الجماعة من جماعات الإخوان، فتتخذ داراً وتعمل على تعليم الأميين، وتلقين الناس أحكام الدين، وتقوم بالوعظ والإرشاد والإصلاح بين المتخاصمين، والتصدق على المحتاجين، وإقامة المنشآت النافعة؛ من مدارس ومعاهد ومستوصفات ومساجد، في حدود مقدرتها والظروف التي تحيط بها، وكثير من شعب الإخوان ينهض بهذه الواجبات، ويؤديها على حالة مُرْضية من حسن الأداء، فهل هذا هو ما يريده الإخوان المسلمون، ويجهزون أنفسهم له، ويأخذونها به؟
يجيب الإمام البنا عن ذلك بقوله: “لا أيها الإخوان، ليس هذا كل ما نريد، هو بعض ما نريد ابتغاء مرضاة الله، هو الهدف الأول القريب، هو صرف الوقت في طاعة وخير، حتى يجيء الظرف المناسب، وتحين ساعة العمل للإصلاح الشامل المنشود، أما غاية الإخوان الأساسية.. أما هدف الإخوان الأسمى.. أما الإصلاح الذي يريده الإخوان، ويهيئون له أنفسهم.. فهو إصلاح شامل كامل، تتعاون عليه قوى الأمة جميعاً، وتتجه نحوه الأمة جميعاً، ويتناول كل الأوضاع القائمة بالتغيير والتبديل.
إن الإخوان المسلمين يهتفون بدعوة، ويؤمنون بمنهاج، ويناصرون عقيدة، ويعملون في سبيل إرشاد الناس إلى نظام اجتماعي، يتناول شؤون الحياة جميعاً، اسمه “الإسلام” نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين، ليكون به من المنذرين بلسان عربي مبين، ويريدون بعث الأمة الإسلامية النموذجية التي تدين بالإسلام الحق، فيكون لها هادياً وإماماً، وتعرف في الناس بأنها دولة القرآن التي تصطبغ به، والتي تذود عنه، والتي تدعو إليه، والتي تجاهد في سبيله، وتضحي في هذا السبيل بالنفوس والأموال، لقد جاء الإسلام نظاماً وإماماً، وديناً ودولة، تشريعاً وتنفيذاً، فبقي النظام وزال الإمام، واستمر الدين وضاعت الدولة، وازدهر التشريع وذوى التنفيذ، أليس هذا هو الواقع أيها الإخوان؟! وإلا فأين الحكم بما أنزل الله في الدماء والأموال والأعراض؟ والله تبارك وتعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ {49} أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة).
والإخوان المسلمون يعملون ليتأيد النظام بالحكام، ولتحيا من جديد دولة الإسلام، ولتشمل بالنفاذ هذه الأحكام، ولتقوم في الناس حكومة مسلمة، تؤيدها أمة مسلمة، تنظم حياتها شريعة مسلمة، أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه حيث قال: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ {18} إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئاً وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) (الجاثية).
أهداف عامة وأهداف خاصة
وقد يقسم الأستاذ البنا أهداف الإخوان إلى أهداف عامة، وأهداف خاصة، فيقول تحت عنوان “أهدافنا العامة”: ماذا نريد أيها الإخوان؟ أنريد جمع المال، وهو ظل زائل، أو سعة الجاه، وهو عرض حائل؟ أم نريد الجبروت في الأرض؟
ونحن نقرأ قول الله تبارك وتعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص: 83)، شهد الله أننا لا نريد شيئاً من هذا، وما لهذا عملنا، ولا إليه دعونا، ولكن اذكروا أن لكم هدفين أساسيين:
1- أن يتحرر الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي، وذلك حق طبيعي لكل إنسان، لا ينكره إلا ظالم جائر أو مستبد قاهر.
2- أن تقوم في هذا الوطن الحر دولة إسلامية حرة، تعمل بأحكام الإسلام، وتطبق نظامه الاجتماعي، وتعلن مبادئه القويمة، وتبلغ دعوته الحكيمة للناس، وما لم تقم هذه الدولة فإن المسلمين جميعاً آثمون مسؤولون بين يدي الله العلي الكبير عن تقصيرهم في إقامتها وقعودهم عن إيجابيات، ومن المعقول للإنسانية في هذه الظروف الحائرة أن تقوم فيها دول تهتف بالمبادئ الظالمة، وتنادي بالدعوات الغاشمة، ولا يكون في الناس من يعمل لتقوم دولة الحق والعدالة والسلام، نريد تحقيق هذين الهدفين في وادي النيل، وفي بلاد العروبة، وفي أرض أسعدها الله بعقيدة الإسلام، دين وجنسية وعقيدة توحد بين جميع المسلمين.
ولنا بعد هذين الهدفين “أهداف خاصة”، لا يصير المجتمع إسلامياً كاملاً إلا بتحقيقها، فاذكروا أيها الإخوان أن أكثر من 60% من المصريين يعيشون أقل من معيشة الحيوان، ولا يحصلون على القوت إلا بشق الأنفس، وأن مصر مهددة بمجاعة قاتلة، ومعرضة لكثير من المشكلات الاقتصادية التي لا يعلم نتيجتها إلا الله، وأن مصر بها أكثر من 320 شركة أجنبية، تحتكر كل المرافق العامة، وكل المنافع العامة في جميع أنحاء البلاد، وأن دولاب التجارة والصناعة والمنشآت الاقتصادية كلها في أيدي الأجانب المرابين، وأن الثروة العقارية تنتقل بسرعة البرق من أيدي الوطنيين إلى أيدي هؤلاء، وأن مصر أكثر بلاد العالم المتمدين أمراضاً وأوبئة وعاهات، وأن أكثر من 90% من الشعب المصري مهدد بضعف البنية، وفقد الحواس، ومختلف العلل والأمراض، وأن مصر ما زالت إلى الآن جاهلة لم يصل عدد المتعلمين فيها إلى الخُمس، بما في ذلك أكثر من مائة ألف شخص لا يتجاوز تعليمهم برامج مدارس الإلزام، وأن الجرائم تتضاعف في مصر وتتكاثر بدرجة هائلة، حتى إن السجون لتخرج أكثر مما تخرج المدارس! وأن مصر لم تستطع إلى الآن أن تجهز فرقة واحدة في الجيش كاملة المعدات، وأن هذه المعاني والصور تتراءى في كل بلد من بلدان العالم الإسلامي، فمن أهدافكم أن تعملوا لإصلاح التعليم، ومحاربة الجهل والفقر والمرض والجريمة، وتكوين مجتمع نموذجي يستحق أن ينتسب إلى الإسلام.
هدف مجمل وأهداف مفصلة
وفي مقام آخر يتحدث البنا رحمه الله عن أهداف الإخوان أو مهمتهم بين الإجمال والتفصيل، فيذكر المهمة الإجمالية أو الهدف الإجمالي، ويجسدها في أن نقف في وجه هذه الموجة الطاغية من مدنية المادة، وحضارة المتع والشهوات، التي جرفت الشعوب الإسلامية، فأبعدتها عن زعامة النبي صلى الله عليه وسلم، وتوقن الدنيا كلها بتعاليم القرآن، وينتشر ظل الإسلام الوارف على الأرض، وحينئذ يتحقق للمسلم ما ينشده، فلا تكون فتنة ويكون الدين كله لله؛ (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ {4} بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم)، هذه مهمتنا نحن الإخوان المسلمين إجمالاً، فأما في بعض تفاصيلها فهي أن يكون في مصر أولاً، بحكم أنها في المقدمة من دول الإسلام وشعوبه، ثم في غيرها كذلك:
– نظام داخلي للحكم يتحقق به قول الله تبارك وتعالى: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ) (المائدة: 49).
– ونظام للعلامات الدولية يتحقق به قول القرآن الكريم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143).
– ونظام عملي للقضاء يستمد من الآية الكريمة: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) (النساء: 65).
– ونظام الدفاع والجندية يحقق مرمى النفير العام؛ (انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) (التوبة: 41).
– ونظام اقتصادي استقلالي للثروة والمال والدولة والأفراد أساسه قوله تعالى: (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً) (النساء: 5).
– ونظام للثقافة والتعليم يقضي على الجهالة والظلام، ويطابق جلال الوحي في أول آية من كتاب الله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق: 1).
– ونظام للأسرة والبيت ينشئ الصبي المسلم والفتاة المسلمة والرجل المسلم، ويحقق قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (التحريم: 6).
– ونظام للفرد في سلوكه الخاص يحقق الفلاح المقصود بقوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) (الشمس: 9).
– وروح عام يهيمن على كل فرد في الأمة من حاكم أو محكوم قوامه قول الله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ) (القصص: 77).
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأ الأستاذ البنا نشاطاً هائلاً بين الإخوان خاصة، وأبناء مصر عامة، وعقد الاجتماعات في دور الإخوان، ونظم المؤتمرات الوطنية الكبرى في عواصم المدن في أنحاء القطر المصري، وشرح فيها الأهداف القومية التي تنشدها مصر، وينشدها الوطن العربي، والوطن الإسلامي في آسيا وأفريقيا، ويتلخص في التحرر من كل سلطان أجنبي، وأن يقوم فيه حكم وطني مستقل ينبثق من عقيدته، ويحتكم إلى شريعته، ولا يتسع المقام لما ذكره الأستاذ في ذلك، ونكتفي بإحالة القارئ الكريم إلى ما ذكره الأستاذ البنا في خطابه التاريخي “في اجتماع رؤساء المناطق ومراكز الجهاد”، في 3 شوال 1364هـ/ 8 سبتمبر 1945م عن الحقوق الوطنية لمصر والعرب والعالم الإسلامي.
شمول الأهداف نابع من شمول الفكرة
لقد كان شمول أهداف الإخوان نابعاً من فكرتهم عن شمول الإسلام، فلم يكن الإسلام عندهم هو العقيدة وحدها، أو العبادة معها، أو استقامة الأخلاق والسلوك فحسب، بل الإسلام عندهم أجمع من ذلك وأوسع نطاقاً، إنه عقيدة جوهرها التوحيد، وعبادة جوهرها الإخلاص، وأخلاق جوهرها الخير، وتقاليد جوهرها الاستقامة، وتشريع جوهره العدل، وأسرة جوهرها التكافل، ومجتمع جوهره الأخوة الحق، وحضارة جوهرها التكامل، وهذا الإسلام الشامل هو الذي ميَّز الإخوان، وهو الذي جعل الإمام البنا يسميه “إسلام الإخوان المسلمين” لا بمعنى أنهم جاؤوا بإسلام جديد، غير الإسلام الذي عرفته الأمة خلال القرون، ولكن لأن الاستعمار الثقافي –الذي صحب الاستعمار السياسي– قلص الإسلام في أذهان المسلمين حتى انحصر في الصلاة والصيام وإقامة الشعائر التعبدية، بل إن الزكاة –وهي عبادة مالية اجتماعية– لم تعد صورتها واضحة في أنفس المسلمين، كما شرعها القرآن والسُّنة، فقد شرعت نظاماً اجتماعياً تقوم الدولة بجبايتها وتوزيعها، بوساطة من سماهم القرآن “العاملين عليها”، فهي تؤخذ من الأغنياء لترد على الفقراء، وكان لا بد من بذل جهد مع المسلمين حتى يعيدوا فهم الإسلام كما فهمه أسلافهم في خير القرون؛ عبادة وقيادة، وصلاة وجهاداً، وحقاً وقوة، ودعوة ودولة، ومصحفاً وسيفاً.
وكان من فضل جماعة الإخوان في ذلك أن جمعت على هذه الأهداف المشايخ والأفندية، أو خريجي المدارس الحديثة، وجمعت أهل المدن والقرى، وضمت الأغنياء والفقراء، كما ضمت كبار المتعلمين، والأميين البسطاء في الريف والأحياء الفقيرة، بهذا تميزت دعوة الإخوان بشمولها لمختلف فئات المجتمع، وشتى طبقاته، كما تميزت بشمول وسائلها وأهدافها.
اتساع مجالات العمل لتحقيقها
وإذا كانت أهداف الإخوان قد اتسعت حتى شملت كل جوانب الحياة، وامتدت حتى شملت العالم الإسلامي، فقد تجلى أثر ذلك في ميادين العمل التي يتطلبها نشاط الإخوان، فقد اتسعت كذلك سعة أهدافهم، ومن قرأ ما ذكره البنا في “ركن العمل” من “رسالة التعاليم”، اتضح له ذلك المعنى بجلاء ناصع.
فقد عدَّد “المجالات”، وإن شئت قلت: عدَّد “المراتب” التي يتطلبها العمل أن يمضي فيها، فكانت سبعة بعدد الأهداف الكبيرة التي ذكرناها من قبل كل منها يفتقر إلى جهد جهيد، وصبر مديد، وعزم أكيد، يقول رحمه الله في شرح المواد بمفهوم العمل.
وأريد بالعمل: ثمرة العلم والإخلاص؛ (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (التوبة: 105).
ثم بين مراتب العمل المطلوبة من الأخ الصادق، على المستوى الفردي والأسري والاجتماعي والوطني والإسلامي والعالمي.
1- فبدأ بالفرد؛ الذي يجب عليه إصلاح نفسه، حتى يكون سليم العقيدة، صحيح العبادة، متين الخلق، مثقف الفكر، قوي الجسم، قادراً على الكسب، مجاهداً لنفسه، حريصاً على وقته، منظماً في شؤونه، نافعاً لغيره، وذلك واجب كل أخ على حدة.
2- وتكوين بيت مسلم؛ بأن يحمل أهله على احترام فكرته، والمحافظة على آداب الإسلام في كل مظاهر الحياة المنزلية، وحسن اختيار الزوجة، وتوقيفها على حقها وواجبها، وحسن تربية الأولاد وتنشئتهم على مبادئ الإسلام، وذلك واجب كل أخ على حدة كذلك.
3- وإرشاد المجتمع؛ بنشر دعوة لخير فيه، ومحاربة الرذائل والمنكرات، وتشجيع الفضائل، والأمر بالمعروف، والمبادرة إلى فعل الخير، وكسب الرأي العام إلى جانب الفكرة الإسلامية، وصبغ مظاهر الحياة العامة بها دائماً، وذلك واجب كل أخ على حدة، وواجب الجماعة كهيئة عامة.
4- وتحرير الوطن بتخليصه من كل سلطان أجنبي –غير إسلامي– سياسي أو اقتصادي أو روحي.
5- وإصلاح الحكومة حتى تكون إسلامية بحق، وبذلك تؤدي مهمتها كخادم للأمة، وأجير عندها، وعامل على مصلحتها، فإذا قصرت، فالنصح والإرشاد، ثم الخلع والإبعاد، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
6- وإعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية، بتحرير أوطانها وإحياء مجدها، وتقريب ثقافاتها وجمع كلمتها، حتى يؤدي ذلك كله إلى إعادة الخلافة المفقودة، والوحدة المنشودة.
7- وأستاذية العالم بنشر دعوة الإسلام في ربوعه؛ (حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه) (الأنفال: 39)، (وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة: 32). وهذه المراتب الأربع الأخيرة تجب على الجماعة متحدة، على كل أخ باعتباره عضواً في الجماعة، وما أثقلها تبعات وما أعظمها مهمات، يراها الناس خيالاً ويراها الأخ المسلم حقيقة، ولن نيأس أبداً، ولنا في الله أعظم الأمل؛ (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) (يوسف: 21).
([1]) العدد (1357)، ص42-44 – 22 ربيع الأول 1420ه – 6/7/1999م.