مثلما تميزت دعوة الإخوان بوضوح الأهداف والمقاصد، تميزت كذلك بوضع الوسائل والطرائق، وكما أن أهدافها إسلامية صميمة من حيث مصادرها ومن حيث منطلقاتها وبواعثها، ومن حيث وجهتها وموضوعها، فوسائلها إسلامية أيضاً لحماً ودماً، وأصولاً وفروعاً، كانت وسائل الإمام البنا لتحقيق غايته واضحة لا لبس فيها ولا ارتياب، وكانت تقوم على الركائز التالية:
1- إشاعة الوعي العام في الأمة بالتقصير الحاصل في تطبيق الإسلام، والبعد عن الإسلام الحقيقي في نواحي الحياة كافة.
2- الإشعار بوجوب العودة إلى الإسلام دينياً بمقتضى عقد الإيمان، ودينوياً بحكم العزة القومية والأصالة الذاتية.
3- شرح ما تجنيه الأمة من ثمار برجوعها إلى الإسلام الصحيح في حياتها؛ مادياً ومعنوياً، ثقافياً وسياسياً، اجتماعياً واقتصادياً.
4- مخاطبة الحكام والمسؤولين في ذلك، ووضع المقترحات العملية للإصلاح والتغيير بين أيديهم.
5- استخلاص العناصر الطيبة المستعدة للبذل، لتربيتهم تربية متكاملة للقيام بهذا الواجب عند اللزوم، إذا لم يستجب المسؤولون لدعاة الإصلاح.
6- التدرج في الخطوات والمراحل؛ ابتداء بالتعريف، مروراً بالتكوين، وإلى التنفيذ.
بيان التقصير في تطبيق الإسلام
لقد وضح الأستاذ البنا ببيانه السهل الممتنع بلسانه وقلمه، وبخطبه ومحاضراته، وبرسائله ومقالاته، وفي لقاءاته الخاصة واجتماعاته العامة، تقصير الأمة في تطبيق الإسلام، وبعدها عن حقيقته، فقد أساءت فهمها للدين، وأساءت العمل به، ومن الكلمات المشرقة في ذلك ما قاله في رسالة “تحت راية القرآن”، موجهاً الحديث إلى الإخوان خاصة، وإلى الناس أجمعين قائلاً:
“إن الله بعث لكم إماماً، ووضع لكم نظاماً، وفصَّل أحكاماً، وأنزل كتاباً، وأحلّ حلالاً، وحرّم حراماً، وأرشدكم إلى ما فيه خيركم وسعادتكم، وهداكم سواء السبيل، فهل اتبعتم إمامه، واحترمتم نظامه، وأنفذتم أحكامه، وقدَّستم كتابه، وأحللتم حلاله، وحرمتم حرامه؟ كونوا صرحاء في الجواب، وسترون الحقيقة واضحة أمامكم، كل النظم التي تسيرون عليها في شؤونكم الحيوية نظم تقليدية بحتة لا تتصل بالإسلام، ولا تستمد منه ولا تعتمد عليه:
– نظام الحكم الداخلي.
– نظام العلاقات الدولية.
– نظام القضاء.
– نظام الدفاع والجندية.
– نظام المال والاقتصاد للدولة والأفراد.
– نظام الثقافة والتعليم.
– بل نظام الأسرة والبيت.
– بل نظام الفرد في سلوكه الخاص.
الروح العام الذي يهيمن على الحاكمين والمحكومين، يشكل مظاهر الحياة على اختلافها، كل ذلك بعيد عن الإسلام وتعاليم الإسلام.
وماذا بقي بعد هذا؟
هذه المساجد الشامخة القائمة التي يعمرها الفقراء والعاجزون، فيؤدون فيها ركعات خالية من معاني الروحانية والخشوع إلا من هدى الله.
هذه الأيام التي تُصام في العام فتكون موسماً للتعطل والتبطل والطعام والشراب، وقلما تتجدد فيها نفس أو تزكو بها روح.
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ) (ص: 24).
هذه المظاهر الخادعة من المسابح والملابس، واللحى والمراسم، والطقوس والألفاظ والكلمات.
أهذا هدي محمد صلى الله عليه وسلم الذي أراد به أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور؟
أهذا هو تشريع القرآن الذي عالج أدواء الأمم ومشكلات الشعوب، ووضع للإصلاح أدق القواعد وأرسخ الأصول؟
من الحق أن نعرف أننا بعدنا عن هدي الإسلام وأصوله وقواعده، والإسلام لا يأبى أن نقتبس النافع، وأن نأخذ الحكمة أنى وجدناها، ولكنه يأبى كل الإباء أن تتشبه في كل شيء بمن ليسوا من دين الله على شيء، وأن نطرح عقائده وفرائضه وحدوده وأحكامه، لنجري وراء قوم فتنتهم الدنيا واستهوتهم الشياطين، حقاً لقد تقدم العلم، وتقدم الفن، وتقدم الفكر، وتزايد المال، وتبرجت الدنيا، وأخذت الأرض زخرفها وازينت، وأترف الناس ونعموا، ولكن هل جلب شيء من هذه السعادة لهم؟ وهل أمن لهم شيء من هذه الحياة، أو ساق إلى نفوسهم الهدوء والطمأنينة؟ هل اطمأنت الجُنوب في المضاجع؟
هل جفت الجفون من المدامع؟
هل حوربت الجريمة، واستراح المجتمع من شرور المجرمين؟
هل استغنى الفقراء وأشبعت الملايين التي تفوق الحصر بطون الجائعين؟
هل ساقت هذه الملاهي والمفاتن، التي ملأت الفضاء وسرت مسرى الهواء، العزاء إلى المحزونين؟
هل تذوقت الشعوب طعم الراحة والهدوء، وأمنت عدوان المعتدين وظلم الظالمين؟
لا شيء من هذا أيها الناس، فما فضل هذه الحضارة إذاً على غيرها من الحضارات؟
كان لا بد للأستاذ أن يبين للناس حقيقة بُعدهم عن الإسلام، حتى لا يزين لهم شيطانهم أنهم مسلمون حقاً، ما داموا يقيمون بعض الشعائر، وإن كانت فارغة من الروح والإخلاص والإتقان، وما داموا يحتفلون بالمناسبات ويقيمون لها الزينات، فكانت الخطوة الأولى أن يعرفوا حقيقة أنفسهم.
بيان مزايا التوجه إلى الإسلام
ومن الوسائل التي سلكها الأستاذ البنا بيان مزايا وفوائد التوجه الإسلامي، حين خاطب المسؤولين قائلاً: سترون أمامكم طريقين كل منهما يهيب بكم أن توجهوا الأمة وجهتها وتسلكوا بها سبيله، ولكل منهما خواصه ومميزاته وآثاره ونتائجه ودعاته ومروّجوه، فأما الأول فطريق الإسلام وأصوله وقواعده وحضارته ومدنيته، وأما الثاني فطريق الغرب ومظاهر حياته ونظمها ومناهجها، وعقيدتنا أن الطريق الأول طريق الإسلام وقواعده وأصوله هو الطريق الوحيد الذي يجب أن يسلك وأن نوجه إليه الأمة الحاضرة والمستقبلة.
وإننا إذا سلكنا بالأمة هذا المسلك استطعنا أن نحصل على فوائد كثيرة، منها أن المنهاج الإسلامي قد جرب من قبل وشهد التاريخ بصلاحيته، وأخرج للناس أمة من أقوى الأمم وأفضلها وأرحمها وأبرها وأبركها على الإنسانية جميعاً، وله من قدسيته واستقراره في نفوس الناس ما يسهل على الجميع تناوله وفقهه والاستجابة له والسير عليه متى وجهوا إليه، فضلاً عن الاعتزاز بالقومية والإشادة بالوطنية الخالصة، إذ إننا نبني حياتنا على قواعدنا وأصولنا ولا نأخذ من غيرنا، وفي ذلك أفضل معاني الاستقلال الاجتماعي والحيوي بعد الاستقلال السياسي، وفي السير على هذا المنهاج تقوية للوحدة العربية أولاً، ثم للوحدة الإسلامية ثانياً، فيمدنا العالم الإسلامي كله بروحه وشعوره وعطفه وتأييده، ويرى فينا إخوة ينجدهم وينجدونه ويمدهم ويمدونه، وفي ذلك ربح أدبي كبير لا يزهد فيه عاقل، وهذا المنهاج تام شامل، كفيل بتقرير أفضل النظم للحياة العامة عملية وروحية، وهذه هي الميزة التي يمتاز بها الإسلام، فهو يضع نظم الحياة للأمم على أساسين مهمين، أخذ الصالح وتجنب الضار، فإذا سلكنا هذا السبيل استطعنا أن نتجنب المشكلات الحيوية التي وقعت فيها الدول الأخرى، التي لم تعرف هذا الطريق ولم تسلكه، بل استطعنا أن نحل كثيراً من المشكلات المعقدة التي عجزت عن حلها النظم الحالية، وبعد ذلك كله فإننا إذا سلكنا هذا السبيل، كان تأييد الله من ورائنا، يقوينا عند الوهن، وينقذنا في الشدائد، ويهون علينا المشاق، ويهب بنا دائماً إلى الأمام؛ (وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء: 104).
مطالبة الحكومات بالإصلاح
وكان من وسائل الإخوان أن يطالبوا الحكومات والقيادات المسؤولة في مصر وفي غيرها بالإصلاحات الواجبة والضرورية في كل ناحية من نواحي الحياة؛ ثقافية وتربوية واجتماعية واقتصادية وسياسية وصحية وأخلاقية وسائر الجوانب المختلفة في مجتمعاتنا، ولعل أوضح مواقف الإخوان في ذلك الخطاب الجامع الذي أرسله الإمام البنا إلى الملك فاروق، ملك مصر والسودان، وإلى رئيس حكومة مصر مصطفى النحاس باشا، زعيم حزب الوفد، وإلى ملوك وأمراء وحكام بلدان العالم الإسلامي المختلفة، كما بعث به إلى عدد من كبار البارزين في هذه البلدان، من ذوي الصفات الدينية والدنيوية، وقد بيَّن لهم فيه أن الأمة على مفترق طريقين:
إما طريق التبعية والتقليد للحضارة الغربية، ونظم حياتها وما يستلزم من اتباع شرائعها وثقافتها وتقاليدها.
وإما طريق مجد الإسلام، وما يقتضيه من اتباع شريعته، والالتزام بقيمه وأخلاقه، ونهج حضارته.
وقد بيَّن أن الطريق الواجب اتباعها هي طريق الإسلام، موضحاً مزايا هذا التوجه وثماره الطيبة في الأنفس والحياة.
كما بيَّن الخطر في الجري وراء المدنية الغربية، واتباع سننها شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، وما وراء ذلك من فقدان الشخصية، وضياع الدين وخسارة الدنيا في النهاية.
كما بيَّن أن الإسلام كفيل بإمداد الأمة بكل ما تحتاج إليه لنهضتها ورقيها؛ مادياً ومعنوياً، فهو يمدها بالعزة القوية، ويشعرها بالذاتية والأصالة، ويوفر أسباب الصحة والقوة، كما ينشئ المناخ اللازم لازدهار العلم، وتكوين العقلية العلمية، وكذلك يوفر لها أسباب الاقتصاد القوي، وأيضاً يهيئ البيئة الصحية لتزكية النفس، وتكوين الخلق القويم، وإنما الأمم الأخلاق، وكذلك بيَّن عدالة النظم الإسلامية وكمالها ومتانة قواعدها، فيما يتعلق بتنظيم أحوال الفرد والأسرة والجماعة والأمة، وأن الإسلام يحمي الأقليات، ويصون حقوق الأجانب، وأن إقامة نظام الإسلام لا يعكر صفو العلاقة بيننا وبين الغرب، ولم ينس الأستاذ البنا أن يوضح للمسؤولين أن أصول النهضة في الشرق غير أصولها في الغرب، وأن ثورة الغرب على الدين لا تعني الثورة على الدين الحق، فرجال الدين غير الدين نفسه، ودعاهم أن يكونوا أول من يتقدم باسم رسول الله بقارورة الدواء من طب القرآن، لاستنقاذ العالم المعذب المريض، إنها خطوة جريئة ولكنها موفقة إن شاء الله تعالى، ثم وضع الإمام الشهيد أمام هذه القيادات المصرية والعربية والإسلامية بعض خطوات الإصلاح العملي، مفصلة بعض التفصيل:
1- في الناحية السياسية والقضائية والإدارية.
2- وفي الناحية الاجتماعية والعلمية، وقد فصَّل فيها أكثر من غيرها.
3- وفي الناحية الاقتصادية.
ولا ضرورة لأن نثقل على القارئ بهذه التفصيلات، ويمكن أن تقرأها في رسالة “نحو النور” من رسائل الإمام الشهيد.
ولا يفوتني أن أذكر هنا أن بعض الناس يعيبون على الإخوان هذا اللون من المطالبات الإصلاحية، من بعض الحكام الذين يعلمون أنهم لن يستجيبوا لهم، وأود أن أقول لهؤلاء: إن واجب الإخوان أن يُسمعوا كل الناس كلمتهم، وأن يبلغوهم رسالتهم، وأن يعذروا إلى الله تعالى بأداء واجب الدعوة إلى الجميع، والحكام ناس من الناس، ولعل في بعضهم بقايا إيمان، أو خيراً ينبض في عروقهم، فإن استجابوا لهذه الدعوة النيرة الخيرة فبها ونعمت، وإن استجابوا لبعضها فشيء خير من لا شيء، وإن لم يستجيبوا بالمرة فقد قامت عليهم الحجة، وحقت عليهم الكلمة، ونجا الإخوان من التبعة.
الوسائل العامة والوسائل الإضافية
تحدث الأستاذ البنا في مناسبات شتى عن وسائله في تحقيق غايته، ونصرة دعوته، وقد قسَّمها إلى وسائل عامة، ووسائل إضافية.
وبيَّن رحمه الله أن الخطب والأقوال والمكاتبات والدروس والمحاضرات وتشخيص الداء ووصف الدواء، كل ذلك وحده لا يجدي نفعاً، ولا يحقق غاية ولا يصل بالداعين إلى هدف من الأهداف، ولكن للدعوات وسائل لا بد من الأخذ بها والعمل لها، والوسائل العامة للدعوات لا تتغير ولا تتبدل ولا تعدو هذه الأمور الثلاثة:
1- الإيمان العميق.
2- التكوين الدقيق.
3- العمل المتواصل.
وقد تكون إلى جانب هذه الوسائل العامة وسائل إضافية لا بد من الأخذ بها وسلوك سبيلها، منها السلبي ومنها الإيجابي، ومنها ما يتفق مع عرف الناس، ومنها ما يخرج على هذا العرف ويخالفه ويناقضه، ومنها ما فيه لين، ومنها ما فيه شدة، ولا بد أن نروض أنفسنا على تحمل ذلك كله، والإعداد لهذا كله، حتى نضمن النجاح، قد يطلب إلينا أن نخالف عادات ومألوفات، وأن نخرج على نظم وأوضاع ألفها الناس، وتعارفوا عليها، وليست الدعوة في حقيقة أمرها إلا خروجاً على المألوفات، وتغييراً للعادات والأوضاع، فهل أنتم مستعدون لذلك أيها الإخوان؟ وسيقول كثير من الناس: وماذا تعني هذه الوسائل؟ وما عساها أن تنفع في بناء أمة وترميم مجتمع مع هذه المشكلات المزمنة، ومع استقرار الحال على هذه المفاسد المتعددة؟ وكيف تعالجون الاقتصاد على غير أساس الربا؟ وكيف تصنعون في قضية المرأة؟ وكيف تنالون حقكم بغير قوة؟ فاعلموا أيها الإخوان أنها وساوس الشيطان يلقيها في أمنية كل مصلح فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يُحكم الله آياته والله عليم حكيم.
واذكروا لهؤلاء جميعاً أن التاريخ يقص علينا من نبأ الأمم الماضية والحاضرة ما فيه عظة وعبرة، والأمة التي تصمم على الحياة لا يمكن أن تموت.
شرح المراد بالوسائل العامة
ويعود الأستاذ إلى شرح المراد بالوسائل العامة مرة أخرى، فيقول:
أما وسائلنا العامة:
فالإقناع، ونشر الدعوة بكل وسائل النشر؛ حتى يفقهها الرأي العام ويناصرها عن عقيدة وإيمان.
ثم استخلاص العناصر الطيبة لتكون هي الدعائم الثابتة لفكرة الإصلاح.
ثم النضال الدستوري حتى يرتفع صوت هذه الدعوة في الأندية الرسمية، وتناصرها وتنحاز إليها القوة التنفيذية، وعلى هذا الأساس سيتقدم مرشحو الإخوان المسلمين حين يجيء الوقت المناسب إلى الأمة في الهيئات النيابية، ونحن واثقون بعون الله من النجاح ما دمنا نبتغي بذلك وجه الله؛ (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40)، وبذلك انحاز الأستاذ البنا بجلاء ووضوح إلى النضال السلمي، والكفاء الدستوري، ليصل إلى ما يريد، ثم يقول: “أما ما سوى ذلك من الوسائل فلن نلجأ إليه إلا مكرهين، ولن نستخدمه إلا مضطرين، وسنكون حينئذ صرحاء شرفاء، لا نحجم عن إعلان موقفنا واضحاً لا لبس فيه ولا غموض معه، ونحن على استعداد تام لتحمل نتائج عملنا أياً كانت، لا نلقي التبعة على غيرنا، ولا نتمسح بسوانا، ونحن نعلم أن ما عند الله خير وأبقى، وأن الفناء في الحق هو عين البقاء، وأنه لا دعوة بغير جهاد، ولا جهاد بغير اضطهاد، وعندئذ تدنو ساعة النصر ويحين وقت الفوز، ويتحقق قول الملك الحق المبين: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (يوسف: 110)”.
لا يمكن أن يُفهم من هذا الكلام اللجوء إلى الاغتيال السياسي، أو تدمير المنشآت، أو القتل العشوائي، أو قتل المدنيين البرآء، كما تفعل، للأسف الشديد، بعض الجماعات التي ينسبونها إلى الإسلام، فالصراحة والشرف وإعلامه الموقف بوضوح لا ريب فيه يتنافى مع طبيعة “العنف الوحشي” الذي تمارسه بعض الجماعات التي لا تراها تمت في عملها إلى الإسلام ولا إلى الإنسانية بنسب قريب أو بعيد.
وسائل الإخوان باعتبارهم جماعة خدمة عامة
وقد فرق الأستاذ البنا بين وسائل الإخوان باعتبارهم جماعة خدمة، وجماعة دعوة وفكرة، فقال: لا شك أن جماعة الإخوان المسلمين جماعة تقوم بالخدمة العامة من بناء المساجد وعمارتها، ومن فتح المدارس والمكاتب والإشراف عليها، ومن إنشاء الأندية والفرق وتوجيهها ورعايتها، ومن الاحتفال بالذكريات الإسلامية احتفالاً يليق بجلالها وعظمتها، ومن الإصلاح بين الناس في القرى والبلدان إصلاحاً يوفر عليهم كثيراً من الجهود والأموال، ومن التوسط بين الأغنياء الغافلين والفقراء المعوزين بتنظيم الإحسان وجمع الصدقات لتوزع في المواسم والأعياد، لا شك أن الإخوان يقومون بهذا كله ولهم فيه والحمد لله أثر يذكر، وقد تضاعف نشاطهم في هذه النواحي مضاعفة ملموسة في هذا الدور من أدوار الدعوة بطبيعة التفات الناس إليها وإقبالهم عليها، ووسيلة الإخوان في هذه الميادين التنظيم والتطوع والاستعانة بأهل الرأي والخبرة، وتدبير ما تحتاج إليه هذه المشروعات من أموال من المشتركين تارة، ومن المتبرعين أخرى إلى ما يدفع لمثل هذه المشروعات، ولسنا نقول: إن الإخوان قد اكتملت جهودهم في هذه الناحية، ولكنا نقول: إنهم يسيرون بخطوات واسعة نحو الكمال، والله الموفق والمستعان.
هؤلاء هم الإخوان وتلك هي دعوتهم كجماعة من جماعات الخدمة العامة.
وسائل الإخوان باعتبارهم دعوة وفكرة
ولكن الإخوان كما علمت ليسوا كذلك فحسب، ولكن لب دعوتهم: فكرة وعقيدة يقذفون بها في نفوس الناس، ليتربى عليها الرأي العام، تؤمن بها القلوب وتجتمع من حولها الأرواح، تلك هي العمل للإسلام، والعمل به في كل نواحي الحياة، أما الوسيلة إلى تحقيق ذلك فليست المال، والتاريخ منذ عرف إلى الآن يحدثنا أن الدعوات لا تقوم أول أمرها بالمال، ولا تنهض به بحال، فهي تحتاج إلى مال في بعض مراحل طريقها، ولكنْ محال أن يكون قوامها ودعامتها، فرجال الدعوات وأنصارها هم دائماً المقلّون من هذا المال، وسل التاريخ ينبئك، وليست الوسيلة القوة كذلك، فالدعوة الحقة إنما تخاطب الأرواح أولاً، وتناجي القلوب، وتطرق مغاليق النفوس، ومحال أن تثبت بالعصا، أو أن تصل إليها على شبا الأسنّة والسهام، ولكن الوسيلة في تركيز كل دعوة وثباتها معروفة ومعلومة، مقروءة لكل من له إلمام بتاريخ الجماعات، وخلاصة ذلك جملتان: “إيمان وعمل، ومحبة وإخاء”، ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تركيز دعوته في نفوس الرعيل الأول من أصحابه، أكثر من أنه دعاهم إلى الإيمان والعمل، ثم جمع قلوبهم على الحب والإخاء، فاجتمعت قوة العقيدة إلى قوة الوحدة، وصارت جماعتهم هي الجماعة النموذجية التي لا بد أن تظهر كلمتها وتنتصر دعوتها، وإن ناوأها أهل الأرض جميعاً، وماذا فعل الدعاة من قبل ومن بعد أكثر من هذا؟ ينادون بالفكرة ويوضحونها، ويدعون الناس إليها فيؤمنون بها، ويعملون لتحقيقها ويجتمعون عليها، ويزدادون عدداً فتزداد الفكرة بهم ظهوراً، حتى تبلغ مداها، وتبتلع ما سواها، وتلك سُنة الله ولن تجد لسُنة الله تبديلاً، وليست دعوة الإخوان بدعاً في الدعوات، فهي صدى من الدعوة الأولى يدوي في قلوب هؤلاء المؤمنين، ويتردد على ألسنتهم، ويحاولون أن يقذفوا به إيماناً في قلوب الأمة المسلمة، ليظهر عملاً في تصرفاتها، ولتجتمع قلوبها عليه، فإذا فعلوا ذلك أيَّدهم الله ونصرهم وهداهم سواء السبيل.
التدرج في الخطوات
من خصائص الوسائل الإخوانية أنها تقوم على التدرج لا على القفز، والتدرج سُنة من سنن الله الكونية، كما أنه سُنة من سننه الشرعية، وقد وضحنا ذلك في كتبنا، فليرج إليه.
يقول الأستاذ البنا: وأما التدرج والاعتماد على التربية ووضوح الخطوات في طريق الإخوان المسلمين، فذلك أنهم اعتقدوا أن كل دعوة لا بد لها من مراحل ثلاث؛ مرحلة الدعاية والتعريف والتبشير بالفكرة وإيصالها إلى الجماهير من طبقات الشعب، ثم مرحلة التكوين وتخيّر الأنصار وإعداد الجنود وتعبئة الصفوف من بين هؤلاء المدعوين، ثم بعد ذلك مرحلة التنفيذ والعمل والإنتاج، وكثيراً ما تسير هذه المراحل الثلاث جنباً إلى جنب، نظراً لوحدة الدعوة وقوة الارتباط بينها جميعاً، فالداعي يدعو، وهو في الوقت نفسه يتخيّر ويربي، وهو في الوقت عينة يعمل وينفذ كذلك، ولكن لا شك في أن الغاية الأخيرة أو النتيجة الكاملة لا تظهر إلا بعد عموم الدعاية وكثرة الأنصار ومتانة التكوين.
في حدود هذه المراحل سارت دعوتنا ولا تزال تسير، فقد بدأنا بالدعوة فوجهناها إلى الأمة في دروس متتالية وفي رحلات متلاحقة وفي مطبوعات كثيرة وفي حفلات عامة وخاصة وفي جريدة الإخوان المسلمين الأولى ثم في مجلة النذير الأسبوعية، وما زلنا ندعو، وسنظل كذلك حتى لا يكون هناك فرد واحد لم تصله دعوة الإخوان المسلمين على حقيقتها الناصعة وعلى وجهها الصحيح، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، وأظن أننا وصلنا في هذه المرحلة إلى درجة نطمئن عليها وعلى اطراد السير فيها، وصار من ألزم واجباتنا أن نخطو الخطوة الثانية، خطوة الاختيار والتكوين والتعبئة.
خطونا الخطوة الثانية في صور ثلاث:
1- الكتائب: ويراد بها تقوية الصف بالتعارف، وتمازج النفوس والأرواح، ومقاومة العادات والمألوفات، والمران على حسن الصلة بالله تبارك وتعالى، واستعداد النصر منه، وهذا هو معهد التربية الروحية للإخوان المسلمين.
2- الفرق الكشافة والجوالة والألعاب الرياضية: ويراد بها تقوية الصف بتنمية جسوم الإخوان، وتعويدهم الطاعة والنظام والأخلاق الرياضية الفاضلة، وإعدادهم للجندية الصحيحة التي يفرضها الإسلام على كل مسلم، وهذا هو معهد التربية الجسمية للإخوان المسلمين.
3- درس التعاليم في الكتائب أو في أندية الإخوان المسلمين: ويراد بها تقويم الصف بتنمية أفكار الإخوان وعقولهم بدراسة جامعة لأهم ما يلزم الأخ المسلم معرفته لدينه ودنياه، وهذا هو معهد التربية العلمية والفكرية للإخوان المسلمين، ذلك إلى مختلف نواحي النشاط الأخرى التي يدرب بها الإخوان على الواجب الذي ينتظرهم كجماعة تعد نفسها لقيادة أمة، بل لهداية العالمين.
بعد أن نطمئن على موقفنا من هذه الخطوة تخطو إن شاء الله الخطوة الثالثة، وهي الخطوة العملية التي تظهر بعدها الثمار الكاملة لدعوة الإخوان المسلمين.
الوقوف في وجه المتعجلين
وكان بين الإخوان أناس متحمسون مستعجلون، لا يحسنون التعامل مع سنن الله في خلقه، ولا يعرفون خلق الأناة والصبر، ولا قانون التدرج، ويريدون قطف الثمرة قبل أوانها، وقد عانى المرشد من هؤلاء ما عانى، وبعضهم فقد صبره تماماً فخرج من الجماعة، وبعضهم بقي ولكنه يشعر بالقلق ويستطيل الطريق، وهؤلاء هم الذين خاطبهم الأستاذ في المؤتمر الخامس بقوة قائلاً: أيها الإخوان المسلمون، وبخاصة المتحمسون المتعجلون منكم، اسمعوها مني كلمة عالية داوية من فوق هذا المنبر في مؤتمركم هذا الجامع، إن طريقكم هذا مرسومة خطواته، موضوعة حدوده، ولست مخالفاً هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول، أجل قد تكون طريقاً طويلة، ولكن ليس هناك غيرها، إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب، فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها، أو يقتطف زهرة قبل أوانها، فلست معه في ذلك بحال، وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيرها من الدعوات، ومن صبر معي حتى تنمو البذرة، وتنبت الشجرة، وتصلح الثمرة، ويحين القطاف، فأجره في ذلك على الله ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين؛ إما النصر والسيادة، وإما الشهادة والسعادة.
ومن الكلمات البليغة التي خاطب بها الأستاذ المرشد الإخوان في هذا الموقف قوله: أيها الإخوان المسلمون، ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف، وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع، واكتشفوا الحقائق في أضواء الخيال الزاهية البراقة، ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة، ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلاَّبة، ولكن غالبوها واستخدموها، وحوّلوا تيارها، واستعينوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النصر، وما هي منكم ببعيد.
أيها الإخوان المسلمون، إنكم تبتغون وجه الله وتحصيل مثوبته ورضوانه، وذلك مكفول لكم ما دمتم مخلصين، ولم يكلفكم الله نتائج الأعمال، ولكن كلفكم صدق التوجه وحسن الاستعداد ونحن بعد ذلك إما مخطئون؛ فلنا أجر العاملين المجتهدين، وإما مصيبون؛ فلنا أجر الفائزين المصيبين، على أن التجارب في الماضي والحاضر قد أثبتت أنه لا خير إلا في طريقكم، ولا إنتاج إلا مع خطتكم، ولا صواب إلا فيما تعملون، فلا تغامروا بجهودكم ولا تغامروا بثمار نجاحكم واعملوا والله معكم ولن يتركم أعمالكم، والفوز للعاملين؛ (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (البقرة: 143).
متى تكون الخطوة التنفيذية؟
نحن هنا في مؤتمر أعتبره مؤتمراً عائلياً يضم أسرة الإخوان المسلمين، وأريد أن أكون معكم صريحاً للغاية، فلم تعد تنفعنا إلا المصارحة:
إن ميدان القول غير ميدان الخيال، وميدان العمل غير ميدان القول، وميدان الجهاد غير ميدان العمل، وميدان الجهاد الحق غير ميدان الجهاد الخاطئ.
يسهل على كثيرين أن يتخيلوا، ولكن ليس كل خيال يدور بالبال يستطاع تصويره أقوالاً باللسان، وإن كثيرين يستطيعون أن يقولوا، ولكن قليلاً من هذا الكثير يثبت عند العمل، وكثير من هذا القليل يستطيع أن يعمل، ولكن قليلاً منهم يقدر على حمل أعباء الجهاد الشاق والعمل المضني، وهؤلاء المجاهدون وهم الصفوة القلائل من الأنصار قد يخطئون الطريق ولا يصيبون الهدف إن لم تتداركهم عناية الله، وفي قصة طالوت بيان لما أقول، فأعدوا أنفسكم وأقبلوا عليها بالتربية الصحيحة والاختبار الدقيق وامتحنوها بالعمل؛ العمل القوي البغيض لديها الشاق عليها، وافطموها عن شهواتها ومألوفاتها وعاداتها.