مثّلت فلسطين الجرح اللحوح على الضمير العربي، على الأقل منذ نكبة عام 1948، فكانت العامل الأبرز في الدفع نحو التحوّلات السياسية في المجال العربي، لا سيما في المشرق العربي، وقد صاحب هذه التحوّلات السياسية، تدافعات فكرية، بين مجمل التيارات من الليبرالية، إلى القومية، إلى الإسلامية، وهو ما أخذ مدى واسعًا آخر بعد النكبة الثانية عام 1967.
وبقدر ما كانت الهزائم الكبرى تلك، علامات حادّة في الوعي العربي ومجراه التاريخي، فقد كانت مقاومة الفلسطينيين علامات أخرى، تعلّق بها الوعي العربي، منذ الثورة الفلسطينية المعاصرة في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، مرورًا بالانتفاضة الفلسطينية الأولى، وليس انتهاء بالانتفاضة الفلسطينية الثانية، وصولاً إلى مشهديات المقاومة الراهنة، سواء جملة المواجهات والحروب التي خاضتها المقاومة في قطاع غزّة، أو أنماط المقاومة الخاصّة الجارية في ساحة الضفّة الغربية.
يمكن القول: إنّ فلسطين أقرب إلى النموذج الضمني الثاوي في الضمير العربي، القادر على استظهار نفسه باستمرار مهما كانت قوّة الدفع التي تتمتع بها محاولات طمسه، وليس ذلك فقط للعدالة الكاملة للقضية الفلسطينية، بما لا يمكن تشويهه أو تحريفه، ولكن لما تمتلكه القضية الفلسطينية من طاقة إحيائية للجماهير العربية، من حيث المقولات الكبرى التأسيسية حول الهوية العربية والإسلامية، ودور الاستعمار الصهيوني في تكريس التبعية العربية.
الطاقة الإحيائية التي تتعبأ بها القضية الفلسطينية بحكم طبيعتها، لا بدّ لها من رافعة عملية، تتمكن بها من رفع الجماهير العربية، تلك الرافعة هي حالة الرفض والتمرد الفلسطيني المتجلية في مظاهر المقاومة المتنوعة طوال التاريخ الفلسطيني، وذلك لأنّ الضحية المستكينة قد تستدعي شيئًا من التعاطف، لكنها غير قادرة على الفعل والتأثير والإلهام وتحويل التعاطف إلى جهد ماديّ، دون النموذج العملي الواضح، الذي هو في هذه الحالة المقاومة.
يحتاج العرب الذين ما زالوا يتلمّسون طريقهم للخروج من موقع الذيلية إلى مدرج الصعود الحضاري، واستعادة دورهم التاريخي بالنسبة للبشرية إلى رموز ملهمة ومؤثّرة تنطوي على قيم متجسدة، هذه الرموز، هي نفسها رموز حالة المقاومة، من فعل المقاومة نفسه، إلى فعل الشهادة، وإلى ما ينجم عن هذا الفعل من مطاردة أو أسر، أو سوى ذلك.
تتحوّل فلسطين، والحالة هذه، إلى جملة من عناصر التأثير المكثّفة، من قبيل مكانتها الدينية، واحتضانها المسجد الأقصى، وكونها جرحًا مفتوحًا، وما تعنيه بالنسبة للمشروع الاستعماري الغربي تجاه الأمّة العربية باصطناع الكيان الصهيوني في فلسطين، ومن جهة عدالتها المطلقة، ومن حيث الواجب الإسلامي والعربي نحوها، وهذه العناصر القيمية المكثّفة، تُحمل على ظاهرة المقاومة والشهادة، لتتحول تلك القيم إلى عناصر تعبئة وتثقيف للجماهير العربية.
في مسارها الطويل، ظلّت القضية الفلسطينية عامل التثقيف السياسي الأهمّ للجماهير العربية، ففعل المقاومة تجاه العدوّ الأجنبي، يصوغ الشخصية الفلسطينية على نحو مختلف، عمّا هو عليه الحال بالنسبة لشعوب الأمّة التي تخضع لحكم مركزي ذاتيّ، ومن ثمّ تنتقل هذه الشخصية الفلسطينية بوصفها شخصية مقاومة، تتسم بروح الرفض والتمرد والنزوع الكاسح نحو الحرية، إلى بقية شعوب الأمّة، وذلك في حين أنّ فلسطين تظلّ سؤالاً عربيًّا يُطرح على الذات وعلى الدول والنظم الحاكمة، فإجابة هذا السؤال من أهم مكونات الواجبات العربية تجاه الأمة، وتحرير فلسطين أهمّ شرط للأمّة ببعديها الإسلامي والعربي لتحقيق ذاتها.
لعلّ هذا هو قدر فلسطين، ومن معاني البركة المكتنزة فيها كما في قوله تعالى: ﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ (الأنبياء: 71)، فهذه البركة متجاوزة المكان الخاصّ إلى العالمين كلهم، بتصحيح مسار البشرية من خلال قدرتها على استنهاض أتباع الأنبياء وحملة الرسالات، فمكانة المسجد الأقصى وبيت المقدس خصوصًا والشام عمومًا، فجّرت طاقة دفع للفتوحات الإسلامية، ومواجهة الخطر الروماني في شمالي الجزيرة العربية.
والاحتلال الصليبي لبيت المقدس تولّدت عنه إرادة الحشد والتوحيد والشعور بالذات الواحدة وما تعنيه هذه الأمّة للبشرية من خلال مواجهة الغزو الصليبي، والأمر نفسه يمكن قوله اليوم بالنسبة للغزوة الاستعمارية الصهيونية، حيث فلسطين بمقاومة شبابها، تنهض بهذا الدور التعبوي والتثقيفي لطرح سؤال الواجب والمسؤولية والحق والعدالة، فضلاً عن سؤال الموقف والمكانة في هذا العالم، على شباب الأمّة.