الكيد والتدبير لتشويه تاريخنا يدخل في باب «التضليل المعلوماتي»، وإذا كان التضليل المعلوماتي قد أصبح علمًا له نظرياته، ومدارسه، وتطورت وسائله، وتنوعت مجالاته، ولا يستطيع أن ينكر ذلك عاقل، فليس معنى ذلك أن التضليل المعلوماتي لم يظهر إلا في هذا العصر، بل لقد كان موجودًا من قديم، ويمارس بطرقه ووسائله المتاحة حسب الزمان والمكان، وإن لم تكن قد صيغت نظرياته ومناهجه، وتحددت قواعده، وتمايزت مدارسه، شأنه في ذلك شأن جميع العلوم الإنسانية، تنشأ وتمارس، ويعيش بها الناس ما يشاء الله لهم أن يعيشوا، ثم ينشأ العلم بعد كعلم الخدمة الاجتماعية مثلاً.
وآية ذلك –أعني استخدام التضليل المعلوماتي قديمًا– ما كتبه الفيلسوف الفرنسي المعاصر رجاء جارودي، قال: «في إحدى صفحات الكتاب الرائع لأناتول فرانس «فوق الحجر الأبيض»، يوجه أحد المؤرخين سؤالاً إلى مدام نوزبير: ما أتعس يوم في تاريخ فرنسا؟ ولم تكن مدام نوزبير على علم بهذا اليوم، وعندئذ قال لها المؤرخ: إنه عام 732م، إنه العام الذي جرت فيه معركة «بواتيه»، التي هُزم فيها المسلمون، ولم يستكملوا دخلوهم فرنسا، في هذا اليوم انهزمت الحضارة العربية أمام البربرية الفرنسية، ولولا هذا اليوم الأسود ما عاشت قرونًا متطاولة في ظلام العصور الوسطى حتى سطعت عليها شمس الحضارة.
ثم يكمل جارودي قائلاً: وهذا النص يثير في نفسي ذكرى لذيذة، إذ كنت في تونس عام 1945م، وأثناء محاضرة لي عن ابن خلدون، ذكرت أن النص من كتاب أناتول فرانس، وإذا بالجنرال الفرنسي –الذي كان وقتئذ مقيمًا عامًا في تونس– أي حاكمًا عامًا لها، إذا بهذا الحاكم العام يأمر بطردي من تونس بدعوى الترويج للدعاية ضد فرنسا.
وكان لهذا الحدث دلالة ومغزى من وجهة النظر الاستعمارية؛ فإن مجرد تذكير المستعمَرين (بفتح الميم) بعظمة ماضيهم وثقافتهم، كان يعتبر إهانة للاستعمار، وخطرًا يهدده»، انتهى كلام جارودي، وهو غني عن أي تعليق.
وفي عهد الاستعمار في إحدى دول الشمال الأفريقي، كان أستاذ الفيزياء الأجنبي يدرس نظريات الضوء، ويستشهد بكلام عالم قديم مبتكر اسمه الهازان، ويذكر تاريخ ابتكاراته ونظرياته، فسأله أحد تلاميذه: من هو الهازان هذا؟ فكلفه الأستاذ بالبحث عنه، ووجهه إلى بعض الكتب الأجنبية في تاريخ العلم، واستطاع الطالب النجيب أن يصل إلى حقيقة الهازان، فإذا هو الحسن بن الهيثم، ولما عاد إلى أستاذه بهذه الحقيقة، لاحظ أن أستاذه الأجنبي لم يعد أبدًا يذكر اسم الهازان، وإذا اضطر إلى الحديث عن نظرياته، يشير إليها من غير أن يذكر اسم صاحبها.
فكيف يذكر هؤلاء بأمجادهم؟ وكيف يضخ في عروقهم دماء الاعتزاز بأسلافهم؟!
صك الانتداب
ولكي تتأكد أن هذا التضليل التاريخي أمر مقصود، اعلم أن صك الانتداب الذي كلفت به عصبة الأمم إنجلترا بحكم فلسطين وإدارتها، كان صك الانتداب هذا ينص في مادته (21) على أن تضع الدولة المنتدبة، وتنفذ في السنة الأولى من هذا الانتداب قانونًا خاصًا بالتنقيب عن الآثار والعاديات؛ أي أن من عمل الدولة المنتدبة بعث تاريخ ما قبل الإسلام، والاحتفاظ بآثاره، والعناية بعادياته.
وكذلك كان شأن الفرنسيين في سورية ولبنان، فقد كان أول ما اهتم به الفرنسيون أن ألفوا في خلال الحرب الكونية الأولى لجانًا في دمشق وبيروت لكتابة تاريخ بلاد الشام، فكتبوا منه بعض تاريخ لبنان، أما تاريخ سورية فقد كلف الآباء اليسوعيون ثلاثة من رهبانهم عام 1920م بكتابة هذا التاريخ، بعد أن قسموه إلى ثلاثة عصور؛ العصر الآرامي والفينيقي، والعصر اليوناني والروماني، والعصر العربي.
ومن هذا الباب إعلان الثري الأمريكي روكفلر عام 1926م عن تبرعه بمبلغ 10 ملايين دولار أمريكي لإنشاء متحف للآثار الفرعونية في مصر، على أن يلحق به معهد لتخريج المتخصصين في هذا الفن، واشترط لإتمام هذا التبرع أن يكون المتحف والمعهد تحت إشراف لجنة من 8 أعضاء ليس فيها من المصريين إلا اثنان فقط، وأن يستمر هذا الإشراف لمدة 33 عاماً، ولما رفضت مصر شرط الإشراف هذا، قبض يده وامتنع عن التبرع.
وفي مدينة بلتيمور بأمريكا، عقد مؤتمر في عام 1943م للمبشرين، كان من ضمن قرارات هذا المؤتمر المضاعفة للجهود المبذولة في توجيه الدراسات للتاريخ الإسلامي نحو إعلاء شأن ثورة الزنج، والقرامطة، والباطنية، وتصويرها على أنها حركات تقدمية تمثل العدل الاجتماعي، في وجه الخلافة الإسلامية الفاسدة التي يظاهرها علماء سوء فاسدون مفسدون.
وأدني إلى الكرام القارئين وأقرب هذه الضجة الكبرى التي تقيمها الدولة العظمى التي بلغ من قوتها أنها تحكم العالم، هذه الدولة تتحرك لوقف مسلسل تلفزيوني تاريخي، وترعد وتبرق، وترغي وتزبد، من أجل مسلسل «الشتات»، ومن قبل من أجل مسلسل «فارس بلا جواد»!
إنه التاريخ.
__________________
المصدر: «إسلام أون لاين».