لم يرد في التشريع الإسلامي نظام سياسي محدد ينبغي الالتزام به، وكل ما ورد في هذا المجال مجموعة من المبادئ العامة التي لا نستطيع من خلالها معرفة آلية اختيار الحاكم ومدة ولايته وكيفية عزله عند العجز أو الفساد.. فلماذا تفرضوا علينا اتباع هذا النظام؟!
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
عرفنا في الجزء الأول من الرد على هذه الشبهة أن جذورها ترجع إلى كتاب «الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبدالرازق؛ وعرفنا قصة هذا الكتاب، وقصة تراجع صاحبه، ثم تحدثنا عن أدلة النظام السياسي في الإسلام من القرآن والسُّنَّة.
ونريد في الجزء الثاني أن نقف مع الواقع الفعلي لحياة المسلمين منذ عصر الرسالة، ودلالة هذا الواقع على أن للإسلام نظامه السياسي الخاص به.
الدولة هي مجموعة من الأفراد يُمارسون نشاطهم على إقليم جغرافي محدد ويخضعون لنظام سياسي معين مُتفق عليه فيما بينهم يتولى شؤون الدولة، وتشرف الدولة على أنشطة سياسية واقتصادية واجتماعية والتي تهدف إلى تقدمها وازدهارها وتحسين مستوى حياة الأفراد فيها، وينقسم العالم إلى مجموعة كبيرة من الدول(1).
من خلال هذا التعريف الذي اتفق عليه كثير من أساتذة العلوم السياسية نجد أنه ينطبق تماماً على المجتمع الذي أنشأه الرسول صلى الله عليه وسلم بمجرد هجرته من مكة إلى المدينة، فمن الحقائق التي لا يستطيع أن ينكرها أحد، أنه على إثر ظهور الدعوة الإسلامية تكوّن مجتمع جديد له ذاتية مستقلة تميزه عن غيره، يعترف بقانون واحد هو التشريع الإسلامي، وتسير حياته وفقاً لنظام واحد، ويهدف إلى غايات مشتركة، وبين أفراده روابط قوية من الجنس واللغة والدين، ومثل هذا المجتمع الذي تتوفر فيه تلك العناصر، ومن خلال التعريف السابق للدولة، هو الذي يوصف بأنه دولة، وهنا يأتي السؤال التالي: هل أقام الإسلام دولة؟ والإجابة: نعم.
وهل كان لهذه الدولة حاكم يحكمها ويسوس الناس، ويُسير أمور الدولة الداخلية والخارجية، ويقيم الحق بين الناس، وينشر بينهم الأمن، ويُقسم بينهم الأموال التي أفاءها الله عليهم، ويعاقب الخارجين عن الشرع؛ فيقيم الحدود ويجاهد الأعداء، ويراسل حكام الدول الأخرى، ويعقد معهم الصلح أو الهدنة، ويُسير الجيوش ويعين لها قيادتها، ويرسل الأمراء من قبله إلى البلاد أو النواحي الخاضعة لدولته، وغير ذلك من الأمور التي يباشرها حكام الدولة؟ والإجابة: نعم، فهذه كلها حقائق أثبتتها السيرة النبوية ولا يستطيع أحد أن ينكرها.
وعندئذ نسأل السؤال التالي: من أول حاكم لهذه الدولة التي أقامها الإسلام؟ والإجابة: هو رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، ومن الذي خلفه في حكمها؟ والإجابة: أصحابه أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم عليّ، رضي الله عنهم.
وعندئذ نسأل هؤلاء: هل بقيت هذه المبادئ –التي تزعمون أنها عامة- على إطلاقها بغير بيان ولا تفصيل؟! أم أنها وجدت السبيل إلى التنفيذ في أرض الواقع فترجمت تلك المبادئ المجملة غير المفصلة عندكم إلى خطوات تفصيلية تنفيذية في واقع حي مشاهَد؟
ولا مفر من أن يقول هؤلاء: نعم؛ لأنه لا بديل لتلك الإجابة إلا القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده تركوا هذه المبادئ التي جاء بها الإسلام ولم يلتزموا بها، وأتوا بالتفصيلات الخاصة بنظام حكمهم بعيداً أو مخالفاً لتلك المبادئ، وهذا ما لا يجرؤ أحد على التصريح به.
فإذا كانت الإجابة: نعم، فعندئذ نسأل السؤال التالي: إذا كانت تلك المبادئ العامة قد ترجمت إلى واقع حي مشاهَد بما فيه من التفصيل والتحديد؛ فما مدى حجة هذه الترجمة وإلزامها؟! أوليس عمل الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين المهديين من بعده بهذه المبادئ يُمثل النظام السياسي الإسلامي الذي أقامه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، أليست هذه السُّنَّة العملية ملزمة لنا شرعاً نحن المسلمين؟
ألم يبعث الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ليبين للناس ما نُزل إليهم من ربهم؟ (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (النحل: 44)، وإذا كانت تلك المبادئ منـزَّلة من عند الله تعالى، ألا يكون من واجب الرسول صلى الله عليه وسلم بيان هذه المبادئ بنص هذه الآية؟ وهل يمكن أن يكون هناك بيان أتم وأكمل وأوضح للمبادئ العامة من بيان الرسول صلى الله عليه وسلم؟!
ونقول: ألا يكفي هذا الوجه من الكلام في الرد على أولئك الذين زعموا كذباً وضلالاً وجهلاً وبهتاناً أن الإسلام لم يأت بنظام سياسي محدد ولم يتعرض لتفصيلاته(2)؟
تصانيف علمائنا في أحكام النظام السياسي للإسلام
لقد صنف علماؤنا الكثير من الكتب في النظام السياسي للإسلام، بدؤوا كتبهم بتعريف «الخلافة»، ثم انطلقوا بعد ذلك إلى الحديث عن شروط من يتولى الخلافة، وكيفية توليته، وواجباته تجاه الأمة، وحقوقه على الأمة، وعن مدة بقائه في منصبه، وعن موجبات عزله، وعن كيفية عزله، وصفات من يوليه، وصفات من يعزله، وكذلك تحدثوا عن مقاصد الخلافة والغاية منها، وعن العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وعن حدود الطاعة إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة المتعلقة بنظام الخلافة، التي تزخر بها كتب أهل العلم الموجودة بين أيدينا الآن.
وهنا نسأل هؤلاء: هل الذين عرَّفوا «الخلافة» من أهل العلم، عرَّفوا شيئاً غير محدد لا وجود له؟! وهل يمكن وضع تعريف لشيء هو في نفسه غير محدد؟! أم أن التعريف يوضع أصلاً لتمييز المعرَّف عن غيره وتحديده، بحيث لا يدخل تحته شيء هو ليس منه، ولا يخرج عنه شيء هو منه؟ وهل يمكن أن يكون الكلام في تلك التفريعات والتفصيلات عن شيء غير محدد أو لا وجود له؟!
كل هذه الأسئلة ليست في حاجة إلى إجابة، فهي تجيب عن نفسها، والذي نؤكده هنا: أن كل العلماء الذين كتبوا عن الخلافة في الإسلام إنما كانوا يكتبون عن أمر محدد عندهم له وجود متميز، وله أحكام مفصلة تخصه(3).
وفي ضوء ما تقدم من بيان، نؤكد بطلان القول بأن الإسلام لم يأت بنظام سياسي، وإنما أتى فقط بمبادئ عامة في السياسة، وأن أصحاب هذا القول لا حجة لديهم غير التخرُّصات التي تعودنا عليها منهم.
_______________________
(1) موسوعة لاروس (Larousse) الفرنسية.
(2) المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام، علي بن نايف الشحود، 1/ 514.
(3) تحطيم الصنم العلماني: جولة جديدة في معركة النظام السياسي الإسلامي، المؤلف: محمد شاكر الشريف، 1/ 43.