كانت الإشاعات قد فاضت بين أهل الكتاب الأولين أن نبيّاً قد اقترب ظهوره، ولهذه الإشاعات ما يبرّرها، فإن عهد الناس بالرسل أن يتتابعوا فلا تطول فترة الانقطاع بين أحدهم والآخر، وكثيراً ما تعاصر المرسلون فجمعتهم أقطار واحدة أو متجاورة، ولكن الأمر تغيّر بعد عيسى عليه السّلام فكادت المائة السادسة تتم بعد بعثته، ولما يأت نبي جديد.
فلما اكتظّت الأرض بالمفاسد والضلالات، زاد التطلّع إلى مقدم هذا المصلح المرتقب، وكان هناك رجال ممن ينكرون الجهالة السائدة يستشرفون للمنصب الجليل، ويتمنّون لو اختيروا له؛ منهم أمية بن أبي الصلت الذي حفل شعره بالتحدّث عن الله وما يجب له من محامد، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيه: «كاد أمية أن يسلم»، وعن عمرو بن الشريد، عن أبيه: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال: «هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟» قلت: نعم؟ قال: «هيه»، فأنشدته بيتا، فقال: «هيه»، حتى أنشدته مائة بيت.
غير أن القدر الأعلى تجاوز أولئك المتطلّعين من شعراء وناثرين، وألقى بالأمانة الكبرى على رجل لم يتطلّع إليها ولم يفكر فيها؛ (وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ) (القصص: 86).
إن الاصطفاء للرسالات العظيمة ليس بالأمل فيها، ولكن بالطاقة عليها.
وكم في الحياة من طامحين لا يملكون إلا الجرأة على الأمل، وكم من راسخين يطويهم الصّمت، حتى إذا كلّفوا أتوا بالعجب العجاب!
ولا يعلم أقدار النفوس إلا بارئها، والذي يريد هداية العالم أجمع يختار للغاية العظيمة أنفساً عظيمة، وقد كان العرب في جاهليتهم يرمقون محمداً صلى الله عليه وسلم بالإجلال، ويحترمون في سيرته شارات الرجولة الكاملة، إلّا أنهم لم يتخيّلوا قط أن مستقبل الحياة قد ارتبط بمستقبله، وأن الحكمة ستتفجّر من ذلك الفم الطّهور، فتطوي السهوب والجدوب، وتثب الوهاد والنّجاد.
إنهم لا يرون منه إلا ما يراه الطفل من سطح البحر، تشغله الصفحة الهادئة عن الغور البعيد.
كان اصطفاء الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم مفاجأة لم تلبث روعتها أن تكشفت عنه، ثم ثبت الكاهل الجلد لما ألقي عليه، ومضى على النهج مسدداً مؤيداً.
ومكث الوحي ينزل ثلاثاً وعشرين سنة كانت الآيات تنزل خلالها حسب الحوادث والأحوال، وهذه الفترة الطويلة الحافلة هي فترة تعلّم وتعليم.
الله عز وجلّ يعلّم رسوله، والرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى هذه المعارف الحية، فيديرها في نفسه حتى يحيلها جزءاً من كيانه، ثم يعلّمها الناس ويأخذهم بها أخذاً.
ونزول القرآن على هذه الوتيرة مقصود للشارع الحكيم، فإن الزمن جزء من علاج النفوس، وسياسة الأمم، وتقرير الأحكام.
واتساق القرآن في أغراضه ومعانيه -على طول المدة التي استغرقها في تجمّعه- يعتبر من وجوه إعجازه؛ فإن خواتيمه -بعد ربع قرن- جاءت مطابقة مساوقة لفواتحه، يصدق بعضها بعضاً ويكمله، كأنما أرسلت في نفس واحد.
وقد تساءل العرب: لم نزل القرآن كذلك؟ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً {32} وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (الفرقان).
إنّ القرآن يشرح حقيقة الدين عند الله وتاريخ هذه الحقيقة، وهو -في دعوته العامة- يبسط الشبهات العارضة ويفنّدها، ويسوق أدلته وهو على بينة من آراء خصومه، ويتتبع أقصى ما يثار ضدّه، ثم يكرّ عليه بالحجة فيمحقه، وقد بدأ القرآن بين قوم تشعّب الكفر في نفوسهم، ومرنت على الجدل ألسنتهم، وكأنّ القدر تخيّر هذه البيئة لتكون مجتمعاً يمثل آخر ما يحيك في القلوب من ريبة، وآخر ما يبذله الباطل من التحدي، فإذا أفلح الإسلام في تبديد هذه الريب، وتذليل هذه العوائق، فهو على ما دونها أقدر.
والأسئلة التي توجّه للنبي صلى الله عليه وسلم، أو التي ينتظر أن توجّه إليه في مختلف العقائد والأحكام؛ وجدت إجابتها الشافية في القرآن، باعتبار أن السؤال لا يمثل حاجة صاحبه واحدها، بل حاجات الناس على مر الأيام.
وفي هذا الجوّ المليء بالتساؤل استفهاماً أو استنكاراً؛ كان الإلهام يلاحق الرسول صلى الله عليه وسلم: قل كذا، قل كذا.
وما أكثر الآيات التي صدرت بهذا الأمر إجابة لسؤال ورد أو سؤال مفترض.
وأنت تحسّ -إذ تقرأ هذه الأجوبة المستفيضة- فيضاً من اليقين ينساب إلى قلبك، كأنها حسمت وساوس عرضت لك أو في الإمكان أن تعرض، والرسالة الخالدة هي التي تصلها بضمائر الناس هذه الأواصر المتينة.
إنّ القرآن رسول حي، تسائله فيجاوبك، وتستمع إليه فيقنعك.
انظر: كيف يؤسس عقيدة البعث والجزاء، وينوّه بشمول الإرادة والقدرة في ثنايا إجابة عن سؤال موجّه، وكيف صيغت المعاني في أخذ وردّ، واعتراض ودفع، كأنها حوار سيّال، يتعدّى أصحابه حتى يجمع الناس إلى آخر الدهر: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ {77} وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ {78} قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ {79} الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ {80} أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ {81} إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {82} فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (يس).
إنّ هذا مثل للاستدلال القائم على النّظر الصائب، لا يختص به زمان دون زمان، ولا مكان دون مكان، فهو خطاب للعقل العام في البشر أجمعين، وهو بيان لحكمة نزول القرآن منجّماً إذ جاءت الآيات للرسول صلى الله عليه وسلم: قل كذا، ردّاً على ما عرض له من أسئلة في أثناء تطوافه هنا وهناك يدعو إلى الله تعالى، ثم ثبت السؤال والجواب ليكون منهما علم ينفع الناس آخر الدهر.