حجاج قاسم
إنك لتقف مشدوهاً أمام هذا الحب الفياض من النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ولأصحابه، وأنت ترى هذه المشاهد الآثرة التي تعبر عن سمو أخلاقه وطهارة قلبه، ومدى هذا الحب الذي فاض على الجميع، فكان رؤوفاً رحيماً بهم، يتعهد حاضرهم، ويسأل عن غائبهم، ويسلم على الصغير والكبير، ويشمّت العاطس، ويواسي الفقير، ويعين الضعيف، ويشاركهم في السراء والضراء، ويعود المريض، ويشيّع ميتهم، ويكسو عاريهم، ويشبع جائعهم، ويرعى أراملهم وأيتامهم، ويجالس فقراءهم، ويداعب صبيانهم ليدخل عليهم الفرح والسرور.
مظاهر حب النبي ﷺ لأمته ولأصحابه
أولاً: منهج التيسير ورفع المشقة:
وهذا يعبر عن حب النبي ﷺ لهم وخوفه عليهم من عدم المداومة على العمل، فقليل دائم خير من كثير منقطع، وكان شعاره معهم «يسِّروا ولا تعسِّروا»، وكان يخشى عليهم من الانحراف عن المنهج، فيقول لهم: «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه»، وكان لحبه لهم يكره منهم كثرة السؤال حتى لا يشدد عليم كبني إسرائيل، ويوم أن جاء ثلاثة نفر إلى بيوته يسألون عن أعماله، فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها؛ أي عدوها قليلة، فقالوا: أين نحن من رسول الله؟! عبدٌ غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أقوم الليل ولا أنام، وقال الآخر: أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: لا أتزوج النساء، فخرج عليهم ﷺ وقال لهم: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا، فإني والله لأخشاكم لله وأتقاكم، ولكني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني».
فلحبه لهم وخوفه على الأمة من المشقة والعنت بحجة الإكثار من العمل وتكليف نفسه فوق ما يطيق، فهو يحميهم من الخروج عن هذا المنهج والانحراف الفكري والسلوكي.
ثانياً: عدم نسيان أمته وهو في معراجه:
فالإنسان عندما يلتقي بحبيب له فإنه ينسى كثيراً من الأشياء ويكون في عالم آخر، كيف والحبيب في مقام القرب هناك في سدرة المنتهى في المقام الذي لم يصل إليه أحد حتى الروح الأمين قال له: تقدم هذا مقامك ولكل منا مقام معلوم، يتذكر أمته عندما يقال له: «السلام عليك أيها النبي»، فأجاب: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين»، ولحبه لأمته يطلب من ربه التخفيف في فرض الصلاة حتى وصلت إلى خمس صلوات في اليوم والليلة.
ثالثاً: الدعاء لأمته في صلاته:
الصلاة هي الصلة بين الإنسان وربه، وفيها ينقطع عن الدنيا ويخلو بحبيبه فيأنس بقربه ومناجاته، وذات مرة بعد أن انتهى من صلاته وكان يدعو للسيدة عائشة فضحكت مستبشرة مسرورة بدعاء النبي لها في صلاته، وقال لها: «أيسرك دعائي لك؟»، قالت: وما لي لا يسرني دعاؤك؟! فقال ﷺ: «إنه دعائي لأمتي في صلاتي».
رابعاً: البكاء خوفاً على أمته:
بعد أن قرأ النبي ﷺ قول الله تعالى في إبراهيم: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (إبراهيم: 36)، وقرأ قول الله في عيسى: (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (المائدة: 118)، وتلك من أعظم المشاهد التي تدل على حبه لأمته، فأنزل الله جبريل: «سل محمداً ما الذي يبكيك»، وهو أعلم، فنزل جبريل وقال: ما الذي يبكيك؟ قال: «أمتي أمتي يا جبريل»، فصعد جبريل إلى الملك الجليل وقال: يبكي على أمته، والله أعلم، فقال لجبريل: «قل له: إنا سنرضيك في أمتك».
خامساً: الشوق للقاء أمته:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الناس شوقاً لأمته، وقد روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة، فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أني قد رأيت إخواننا»، فقالوا: يا رسول الله، ألسنا بإخوانك؟ قال: «بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، وأنا فرطهم على الحوض»، فقالوا: يا رسول الله، كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: «أرأيت لو كان لرجل خيل غر محجلة في خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «فإنهم يأتون يوم القيامة غرًّا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلم، ألا هلم، ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا».
سادساً: ادخاره لدعوته شفاعة لأمته:
ولما كان لكل نبي دعوة تعجل بها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خبأها لأمته، برغم ما لاقى من العنت والعذاب الذي يحوجه إلى هذه الدعوة، لكنه صبر صبراً جميلاً، ولولا عظيم المحبة وكريم الفضل لما كان ما كان.
إن حب النبي ﷺ لأمته أمان لها في الدنيا والآخرة، ورفع الله قدرها فنالت الخيرية بشهادة الله لها: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: 110)، واستحقت الريادة والقيادة ووضع عنها بحب النبي ﷺ الإصر والأغلال التي كانت عليهم.
مشاهد حب النبي ﷺ لأصحابه الكرام كانت من أروع النماذج التي سجلتها كتب السيرة على مر التاريخ، فالصحابة رضوان الله عليهم أجمعين اصطفاهم الله لحمل الأمانة وتبليغ الرسالة فضحوا من أجلها بالنفس والنفيس، وجاهدوا وهاجروا في سبيل نصرة هذا الدين، والتفوا حول رسول الله، وأيد الله بهم رسوله صلى الله عليه وسلم، فكانوا كالجسد الواحد والبنيان المرصوص، فرضي الله عنهم ورضوا عنه.